الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 91
" خِلَالهَا " أَيْ وَسَطهَا . الْآيَة نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاء قُرَيْش مِثْل عُتْبَة وَشَيْبَة اِبْنَيْ رَبِيعَة , وَأَبِي سُفْيَان وَالنَّضْر بْن الْحَارِث , وَأَبِي جَهْل وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي أُمَيَّة , وَأُمَيَّة بْن خَلَف وَأَبِي الْبَخْتَرِيّ , وَالْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة وَغَيْرهمْ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَة الْقُرْآن وَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ مُعْجِزَة , اِجْتَمَعُوا - فِيمَا ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره - بَعْد غُرُوب الشَّمْس عِنْد ظَهْر الْكَعْبَة , ثُمَّ قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : اِبْعَثُوا إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا فِيهِ , فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّ أَشْرَاف قَوْمك قَدْ اِجْتَمَعُوا إِلَيْك لِيُكَلِّمُوك فَأْتِهِمْ , فَجَاءَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَظُنّ أَنْ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِيمَا كَلَّمَهُمْ فِيهِ بَدْو , وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا يُحِبّ رُشْدهمْ وَيَعِزّ عَلَيْهِ عَنَتهمْ , حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ : يَا مُحَمَّد ! إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْك لِنُكَلِّمك , وَإِنَّا وَاَللَّه مَا نَعْلَم رَجُلًا مِنْ الْعَرَب أَدْخَلَ عَلَى قَوْمه مَا أَدْخَلْت عَلَى قَوْمك ; لَقَدْ شَتَمْت الْآبَاء وَعِبْت الدِّين وَشَتَمْت الْآلِهَة وَسَفَّهْت الْأَحْلَام وَفَرَّقْت الْجَمَاعَة , فَمَا بَقِيَ أَمْر قَبِيح إِلَّا قَدْ جِئْته فِيمَا بَيْننَا وَبَيْنك , أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ . فَإِنْ كُنْت إِنَّمَا جِئْت بِهَذَا الْحَدِيث تَطْلُب بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالنَا حَتَّى تَكُون أَكْثَرنَا مَالًا , وَإِنْ كُنْت إِنَّمَا تَطْلُب بِهِ الشَّرَف فِينَا فَنَحْنُ نُسَوِّدك عَلَيْنَا , وَإِنْ كُنْت تُرِيد بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاك عَلَيْنَا , وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيك رَئِيًّا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْك - وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِع مِنْ الْجِنّ رَئِيًّا - فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَذَلْنَا أَمْوَالنَا فِي طَلَب الطِّبّ لَك حَتَّى نُبْرِئك مِنْهُ أَوْ نُعْذَر فِيك . فَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا بِي مَا تَقُولُونَ مَا جِئْت بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُب أَمْوَالكُمْ وَلَا الشَّرَف فِيكُمْ وَلَا الْمُلْك عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ اللَّه بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُون لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَات رَبِّي وَنَصَحْت لَكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّه حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْنِي وَبَيْنكُمْ ) أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالُوا : يَا مُحَمَّد , فَإِنْ كُنْت غَيْر قَابِل مِنَّا شَيْئًا مِمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْك , فَإِنَّك قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاس أَحَد أَضْيَق بَلَدًا وَلَا أَقَلّ مَاء وَلَا أَشَدّ عَيْشًا مِنَّا , فَسَلْ لَنَا رَبّك الَّذِي بَعَثَك بِمَا بَعَثَك بِهِ , فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَال الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا , وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادنَا وَلْيَخْرِق لَنَا فِيهَا أَنْهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّام , وَلْيَبْعَث لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا ; وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يَبْعَث لَنَا قُصَيّ بْن كِلَاب ; فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخ صِدْق فَنَسْأَلهُمْ عَمَّا تَقُول , أَحَقّ هُوَ أَمْ بَاطِل , فَإِنْ صَدَّقُوك وَصَنَعْت مَا سَأَلْنَاك صَدَّقْنَاك , وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتك مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَأَنَّهُ بَعَثَك رَسُولًا كَمَا تَقُول . فَقَالَ لَهُمْ صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامه : ( مَا بِهَذَا بُعِثْت إِلَيْكُمْ إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ اللَّه تَعَالَى بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْت بِهِ إِلَيْكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّه حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْنِي وَبَيْنكُمْ ) . قَالُوا : فَإِذَا لَمْ تَفْعَل هَذَا لَنَا فَخُذْ لِنَفْسِك ! سَلْ رَبّك أَنْ يَبْعَث مَعَك مَلَكًا يُصَدِّقك بِمَا تَقُول وَيُرَاجِعنَا عَنْك , وَاسْأَلْهُ فَلْيَجْعَلْ لَك جِنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَب وَفِضَّة يُغْنِيك بِهَا عَمَّا نَرَاك تَبْتَغِي ; فَإِنَّك تَقُوم بِالْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِس الْمَعَاش كَمَا نَلْتَمِس , حَتَّى نَعْرِف فَضْلك وَمَنْزِلَتك مِنْ رَبّك إِنْ كُنْت رَسُولًا كَمَا تَزْعُم . فَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه : ( مَا أَنَا بِفَاعِلٍ وَمَا أَنَا بِاَلَّذِي يَسْأَل رَبّه هَذَا وَمَا بُعِثْت بِهَذَا إِلَيْكُمْ وَلَكِنَّ اللَّه بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّه حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْنِي وَبَيْنكُمْ ) قَالُوا : فَأَسْقِطْ السَّمَاء عَلَيْنَا كِسَفًا كَمَا زَعَمْت أَنَّ رَبّك إِنْ شَاءَ فَعَلَ ; فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِن لَك إِلَّا أَنْ تَفْعَل . قَالَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ذَلِكَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلهُ بِكُمْ فَعَلَ ) قَالُوا : يَا مُحَمَّد , فَمَا عَلِمَ رَبّك أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَك وَنَسْأَلك عَمَّا سَأَلْنَاك عَنْهُ وَنَطْلُب مِنْك مَا نَطْلُب , فَيَتَقَدَّم إِلَيْك فَيُعْلِمك بِمَا تُرَاجِعنَا بِهِ , وَيُخْبِرك مَا هُوَ صَانِع فِي ذَلِكَ بِنَا إِذْ لَمْ نَقْبَل مِنْك مَا جِئْتنَا بِهِ . إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا إِنَّمَا يُعْلِّمك هَذَا رَجُل مِنْ الْيَمَامَة يُقَال لَهُ الرَّحْمَن , وَإِنَّا وَاَللَّه لَا نُؤْمِن بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا , فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْك يَا مُحَمَّد , وَإِنَّا وَاَللَّه لَا نَتْرُكك وَمَا بَلَغْت مِنَّا حَتَّى نُهْلِكك أَوْ تُهْلِكنَا . وَقَالَ قَائِلهمْ : نَحْنُ نَعْبُد الْمَلَائِكَة وَهِيَ بَنَات اللَّه . وَقَالَ قَائِلهمْ : لَنْ نُؤْمِن لَك حَتَّى تَأْتِي بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَة قَبِيلًا . فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَامَ عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْد اللَّه بْن أَبِي أُمَيَّة بْن الْمُغِيرَة بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن مَخْزُوم , وَهُوَ اِبْن عَمَّته , هُوَ لِعَاتِكَة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب , فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّد عَرَضَ عَلَيْك قَوْمك مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلهُ مِنْهُمْ , ثُمَّ سَأَلُوك لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتك مِنْ اللَّه كَمَا تَقُول , وَيُصَدِّقُوك وَيَتَّبِعُوك فَلَمْ تَفْعَل ثُمَّ سَأَلُوك أَنْ تَأْخُذ لِنَفْسِك مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلك عَلَيْهِمْ وَمَنْزِلَتك مِنْ اللَّه فَلَمْ تَفْعَل ثُمَّ سَأَلُوك أَنْ تُعَجِّل لَهُمْ بَعْض مَا تُخَوِّفهُمْ بِهِ مِنْ الْعَذَاب فَلَمْ تَفْعَل - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ - فَوَاَللَّهِ لَا أُومِن بِك أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذ إِلَى السَّمَاء سُلَّمًا , ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُر حَتَّى تَأْتِيهَا , ثُمَّ تَأْتِي مَعَك بِصَكٍّ مَعَهُ أَرْبَعَة مِنْ الْمَلَائِكَة يَشْهَدُونَ لَك أَنَّك كَمَا تَقُول . وَاَيْم اللَّه لَوْ فَعَلْت ذَلِكَ مَا ظَنَنْت أَنِّي أُصَدِّقك ثُمَّ اِنْصَرَفَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَانْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْله حَزِينًا آسِفًا لِمَا فَاتَهُ مِمَّا كَانَ يَطْمَع بِهِ مِنْ قَوْمه حِين دَعَوْهُ , وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتهمْ إِيَّاهُ , كُلّه لَفْظ اِبْن إِسْحَاق .
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاًسورة الإسراء الآية رقم 92
قِرَاءَة الْعَامَّة . وَقَرَأَ مُجَاهِد " أَوْ يَسْقُط السَّمَاء " عَلَى إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى السَّمَاء . " كِسَفًا " قِطَعًا , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَالْكِسَف ( بِفَتْحِ السِّين ) جَمْع كِسْفَة , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامِر وَعَاصِم . الْبَاقُونَ " كِسْفًا " بِإِسْكَانِ السِّين . قَالَ الْأَخْفَش : مَنْ قَرَأَ كِسْفًا مِنْ السَّمَاء جَعَلَهُ وَاحِدًا , وَمَنْ قَرَأَ كِسَفًا جَعَلَهُ جَمْعًا . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ أَسْكَنَ السِّين جَازَ أَنْ يَكُون جَمْع كِسْفَة وَجَازَ أَنْ يَكُون مَصْدَرًا , مِنْ كَسَفْت الشَّيْء إِذَا غَطَّيْته . فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا : أَسْقِطْهَا طَبَقًا عَلَيْنَا . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ . الْكِسْفَة الْقِطْعَة مِنْ الشَّيْء ; يُقَال : أَعْطِنِي كِسْفَة مِنْ ثَوْبك , وَالْجَمْع كِسَف وَكِسْف . وَيُقَال : الْكِسْفَة وَاحِد .



أَيْ مُعَايَنَة ; عَنْ قَتَادَة وَابْن جُرَيْج . وَقَالَ الضَّحَّاك وَابْن عَبَّاس : كَفِيلًا . قَالَ مُقَاتِل : شَهِيدًا . مُجَاهِد : هُوَ جَمْع الْقَبِيلَة ; أَيْ بِأَصْنَافِ الْمَلَائِكَة قَبِيلَة قَبِيلَة . وَقِيلَ : ضُمَنَاء يَضْمَنُونَ لَنَا إِتْيَانك بِهِ .
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاًسورة الإسراء الآية رقم 93
أَيْ مِنْ ذَهَب ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَأَصْله الزِّينَة . وَالْمُزَخْرَف الْمُزَيَّن . وَزَخَارِف الْمَاء طَرَائِقه . وَقَالَ مُجَاهِد : كُنْت لَا أَدْرِي مَا الزُّخْرُف حَتَّى رَأَيْته فِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " بَيْت مِنْ ذَهَب " أَيْ نَحْنُ لَا نَنْقَاد لَك مَعَ هَذَا الْفَقْر الَّذِي نَرَى .


أَيْ تَصْعَد ; يُقَال : رَقِيت فِي السُّلَّم أَرْقَى رُقِيًّا وَرَقْيًا إِذَا صَعِدْت . وَارْتَقَيْت مِثْله .


أَيْ مِنْ أَجْل رُقِيّك , وَهُوَ مَصْدَر ; نَحْو مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا , وَهَوَى يَهْوِي هُوِيًّا , كَذَلِكَ رَقِيَ يَرْقَى رُقِيًّا .


أَيْ كِتَابًا مِنْ اللَّه تَعَالَى إِلَى كُلّ رَجُل مِنَّا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " بَلْ يُرِيد كُلّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَة " [ الْمُدَّثِّر : 52 ] .


وَقَرَأَ أَهْل مَكَّة وَالشَّام " قَالَ سُبْحَان رَبِّي " يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ قَالَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَعْجِز عَنْ شَيْء وَعَنْ أَنْ يُعْتَرَض عَلَيْهِ فِي فِعْل . وَقِيلَ : هَذَا كُلّه تَعَجُّب عَنْ فَرْط كُفْرهمْ وَاقْتِرَاحَاتهمْ . الْبَاقُونَ " قُلْ " عَلَى الْأَمْر ; أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد


أَيْ مَا أَنَا " إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا " أَتَّبِع مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي , وَيَفْعَل اللَّه مَا يَشَاء مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي لَيْسَتْ فِي قُدْرَة الْبَشَر , فَهَلْ سَمِعْتُمْ أَحَدًا مِنْ الْبَشَر أَتَى بِهَذِهِ الْآيَات وَقَالَ بَعْض الْمُلْحِدِينَ : لَيْسَ هَذَا جَوَابًا مُقْنِعًا , وَغَلِطُوا ; لِأَنَّهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَر لَا أَقْدِر عَلَى شَيْء مِمَّا سَأَلْتُمُونِي , وَلَيْسَ لِي أَنْ أَتَخَيَّر عَلَى رَبِّي , وَلَمْ تَكُنْ الرُّسُل قَبْلِي يَأْتُونَ أُمَمهمْ بِكُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ وَيَبْغُونَهُ , وَسَبِيلِي سَبِيلهمْ , وَكَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ آيَاته الدَّالَّة عَلَى صِحَّة نُبُوَّتهمْ , فَإِذَا أَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحُجَّة لَمْ يَجِب لِقَوْمِهِمْ أَنْ يَقْتَرِحُوا غَيْرهَا , وَلَوْ وَجَبَ عَلَى اللَّه أَنْ يَأْتِيهمْ بِكُلِّ مَا يَقْتَرِحُونَهُ مِنْ الْآيَات لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيهمْ بِمَنْ يَخْتَارُونَهُ مِنْ الرُّسُل , وَلَوَجَبَ لِكُلِّ إِنْسَان أَنْ يَقُول : لَا أُومِن حَتَّى أُوتَى بِآيَةٍ خِلَاف مَا طَلَبَ غَيْرِي . وَهَذَا يَؤُول إِلَى أَنْ يَكُون التَّدْبِير إِلَى النَّاس . وَإِنَّمَا التَّدْبِير إِلَى اللَّه تَعَالَى .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاًسورة الإسراء الآية رقم 94
يَعْنِي الرُّسُل وَالْكُتُب مِنْ عِنْد اللَّه بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ . " فَأَنْ " الْأُولَى فِي مَحَلّ نَصْب بِإِسْقَاطِ حَرْف الْخَفْض . و " أَنْ " الثَّانِيَة فِي مَحَلّ رَفْع " بِمَنَعَ " أَيْ وَمَا مَنَعَ النَّاس مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلَّا قَوْلهمْ أَبَعَثَ اللَّه بَشَرًا رَسُولًا .


قَالُوا جَهْلًا مِنْهُمْ .


أَيْ اللَّه أَجَلّ مِنْ أَنْ يَكُون رَسُوله مِنْ الْبَشَر . فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فَرْط عِنَادهمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : أَنْتَ مِثْلنَا فَلَا يَلْزَمنَا الِانْقِيَاد , وَغَفَلُوا عَنْ الْمُعْجِزَة .
قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاًسورة الإسراء الآية رقم 95
أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْمَلَك إِنَّمَا يُرْسَل إِلَى الْمَلَائِكَة ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ مَلَكًا إِلَى الْآدَمِيِّينَ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَرَوْهُ عَلَى الْهَيْئَة الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا , وَإِنَّمَا أَقْدَرَ الْأَنْبِيَاء عَلَى ذَلِكَ وَخَلَقَ فِيهِمْ مَا يَقْدِرُونَ بِهِ , لِيَكُونَ ذَلِكَ آيَة لَهُمْ وَمُعْجِزَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْأَنْعَام ] نَظِير هَذِهِ الْآيَة ; وَهُوَ قَوْله : " وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَك وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْر ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ . وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا " [ الْأَنْعَام : 9 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهِ .
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 96
يُرْوَى أَنَّ كُفَّار قُرَيْش قَالُوا حِين سَمِعُوا قَوْله " هَلْ كُنْت إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا " : فَمَنْ يَشْهَد لَك أَنَّك رَسُول اللَّه . فَنَزَلَ " قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا " . .
وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 97
أَيْ لَوْ هَدَاهُمْ اللَّه لَاهْتَدَوْا .


أَيْ لَا يَهْدِيهِمْ أَحَد .


فِيهِ وَجْهَانِ : [ أَحَدهمَا ] أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ الْإِسْرَاع بِهِمْ إِلَى جَهَنَّم ; مِنْ قَوْل الْعَرَب : قَدِمَ الْقَوْم عَلَى وُجُوههمْ إِذَا أَسْرَعُوا . [ الثَّانِي ] أَنَّهُمْ يُسْحَبُونَ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى وُجُوههمْ إِلَى جَهَنَّم كَمَا يُفْعَل فِي الدُّنْيَا بِمَنْ يُبَالَغ فِي هَوَانه وَتَعْذِيبه . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح ; لِحَدِيثِ أَنَس أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوههمْ , أَيُحْشَرُ الْكَافِر عَلَى وَجْهه ؟ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَلَيْسَ الَّذِي أَمَشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيه عَلَى وَجْهه يَوْم الْقِيَامَة ) : قَالَ قَتَادَة حِين بَلَغَهُ : بَلَى وَعِزَّة رَبّنَا . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . وَحَسْبك .



قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن : أَيْ عُمْي عَمَّا يَسُرّهُمْ , بُكْم عَنْ التَّكَلُّم بِحُجَّةٍ , صُمّ عَمَّا يَنْفَعهُمْ ; وَعَلَى هَذَا الْقَوْل حَوَاسّهمْ بَاقِيَة عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى الصِّفَة الَّتِي وَصَفَهُمْ اللَّه بِهَا ; لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَة فِي عَذَابهمْ , ثُمَّ يُخْلَق ذَلِكَ لَهُمْ فِي النَّار , فَأَبْصَرُوا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَيْ : " وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّار فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا " [ الْكَهْف : 53 ] , وَتَكَلَّمُوا , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا " [ الْفُرْقَان : 13 ] , وَسَمِعُوا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا " [ الْفُرْقَان : 12 ] . وَقَالَ مُقَاتِل بْن سُلَيْمَان : إِذَا قِيلَ لَهُمْ " اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 108 ] صَارُوا عُمْيًا لَا يُبْصِرُونَ صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ بُكْمًا لَا يَفْقَهُونَ . وَقِيلَ : عَمُوا حِين دَخَلُوا النَّار لِشِدَّةِ سَوَادهَا , وَانْقَطَعَ كَلَامهمْ حِين قِيلَ لَهُمْ : اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ . وَذَهَبَ الزَّفِير وَالشَّهِيق بِسَمْعِهِمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا .


أَيْ مُسْتَقَرّهمْ وَمُقَامهمْ .


أَيْ سَكَنَتْ ; عَنْ الضَّحَّاك وَغَيْره . مُجَاهِد طَفِئَتْ . يُقَال : خَبَتْ النَّار تَخْبُو خَبْوًا أَيْ طَفِئَتْ , وَأَخْبَيْتهَا أَنَا .


أَيْ نَار تَتَلَهَّب . وَسُكُون اِلْتِهَابهَا مِنْ غَيْر نُقْصَان فِي آلَامهمْ وَلَا تَخْفِيف عَنْهُمْ مِنْ عَذَابهمْ . وَقِيلَ : إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْبُو . كَقَوْلِهِ : " وَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن " [ الْإِسْرَاء : 45 ] .
ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًاسورة الإسراء الآية رقم 98
أَيْ ذَلِكَ الْعَذَاب جَزَاء كُفْرهمْ .


أَيْ تُرَابًا .


فَأَنْكَرُوا الْبَعْث فَأَجَابَهُمْ اللَّه تَعَالَى فَقَالَ : " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض قَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُق مِثْلهمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْب فِيهِ "
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًاسورة الإسراء الآية رقم 99
قِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض , وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْب فِيهِ قَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُق مِثْلهمْ . وَالْأَجَل : مُدَّة قِيَامهمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ مَوْتهمْ , وَذَلِكَ مَا لَا شَكَّ فِيهِ إِذْ هُوَ مُشَاهَد . وَقِيلَ : هُوَ جَوَاب قَوْلهمْ : " أَوْ تُسْقِط السَّمَاء كَمَا زَعَمْت عَلَيْنَا كِسَفًا " [ الْإِسْرَاء : 92 ] . وَقِيلَ : وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة .



أَيْ أَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا جُحُودًا بِذَلِكَ الْأَجَل وَبِآيَاتِ اللَّه . وَقِيلَ : ذَلِكَ الْأَجَل هُوَ وَقْت الْبَعْث , وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكّ فِيهِ .
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُورًاسورة الإسراء الآية رقم 100
أَيْ خَزَائِن الْأَرْزَاق . وَقِيلَ : خَزَائِن النِّعَم , وَهَذَا أَعَمّ .


مِنْ الْبُخْل , وَهُوَ جَوَاب قَوْلهمْ : " لَنْ نُؤْمِن لَك حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنْ الْأَرْض يَنْبُوعًا " [ الْإِسْرَاء : 90 ] حَتَّى نَتَوَسَّع فِي الْمَعِيشَة . أَيْ لَوْ تَوَسَّعْتُمْ لَبَخِلْتُمْ أَيْضًا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ مَلَك أَحَد الْمَخْلُوقِينَ خَزَائِن اللَّه لَمَا جَادَ بِهَا كَجُودِ اللَّه تَعَالَى ; لِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ لَا بُدّ أَنْ يُمْسِك مِنْهَا لِنَفَقَتِهِ وَمَا يَعُود بِمَنْفَعَتِهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ يَخَاف الْفَقْر وَيَخْشَى الْعَدَم . وَاَللَّه تَعَالَى يَتَعَالَى فِي جُوده عَنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ . وَالْإِنْفَاق فِي هَذِهِ الْآيَة بِمَعْنَى الْفَقْر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَحَكَى أَهْل اللُّغَة أَنْفَقَ وَأَصْرَمَ وَأَعْدَمَ وَأَقْتَرَ إِذَا قَلَّ مَاله .



أَيْ بَخِيلًا مُضَيِّقًا . يُقَال : قَتَرَ عَلَى عِيَاله يَقْتُر وَيُقْتِر قَتْرًا وَقُتُورًا إِذَا ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَة , وَكَذَلِكَ التَّقْتِير وَالْإِقْتَار , ثَلَاث لُغَات . وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ خَاصَّة ; قَالَهُ الْحَسَن . وَالثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّة , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور ; وَذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًاسورة الإسراء الآية رقم 101
اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَات ; فَقِيلَ : هِيَ بِمَعْنَى آيَات الْكِتَاب ; كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنْ صَفْوَان بْن عَسَّال الْمُرَادِيّ أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ قَالَ أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : اِذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيّ نَسْأَلهُ ; فَقَالَ : لَا تَقُلْ لَهُ نَبِيّ فَإِنَّهُ إِنْ سَمِعَنَا كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أَعْيُن ; فَأَتَيَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْع آيَات بَيِّنَات " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَسْحَرُوا وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَان فَيَقْتُلهُ وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَة وَلَا تَفِرُّوا مِنْ الزَّحْف - شَكَّ شُعْبَة - وَعَلَيْكُمْ يَا مَعْشَر الْيَهُود خَاصَّة أَلَّا تَعْدُوا فِي السَّبْت ) فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَا : نَشْهَد أَنَّك نَبِيّ . قَالَ : ( فَمَا يَمْنَعكُمَا أَنْ تُسْلِمَا ) قَالَا : إِنَّ دَاوُد دَعَا اللَّه أَلَّا يَزَال فِي ذُرِّيَّته نَبِيّ وَإِنَّا نَخَاف إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تَقْتُلنَا الْيَهُود . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] . وَقِيلَ : الْآيَات بِمَعْنَى الْمُعْجِزَات وَالدَّلَالَات . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : الْآيَات التِّسْع الْعَصَا وَالْيَد وَاللِّسَان وَالْبَحْر وَالطُّوفَان وَالْجَرَاد وَالْقُمَّل وَالضَّفَادِع وَالدَّم ; آيَات مُفَصَّلَات . وَقَالَ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ : الْخَمْس الْمَذْكُورَة فِي [ الْأَعْرَاف ] ; يَعْنِيَانِ الطُّوفَان وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ , وَالْيَد وَالْعَصَا وَالسِّنِينَ وَالنَّقْص مِنْ الثَّمَرَات . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ الْحَسَن ; إِلَّا أَنَّهُ يَجْعَل السِّنِينَ وَالنَّقْص مِنْ الثَّمَرَات وَاحِدَة , وَجَعَلَ التَّاسِعَة تَلْقَف الْعَصَا مَا يَأْفِكُونَ . وَعَنْ مَالِك كَذَلِكَ ; إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَكَان السِّنِينَ وَالنَّقْص مِنْ الثَّمَرَات ; الْبَحْر وَالْجَبَل . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : هِيَ الْخَمْس الَّتِي فِي [ الْأَعْرَاف ] وَالْبَحْر وَالْعَصَا وَالْحَجَر وَالطَّمْس عَلَى أَمْوَالهمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْح هَذِهِ الْآيَات مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ .


أَيْ سَلْهُمْ يَا مُحَمَّد إِذْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِهَذِهِ الْآيَات , حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي [ يُونُس ] . وَهَذَا سُؤَال اِسْتِفْهَام لِيَعْرِف الْيَهُود صِحَّة مَا يَقُول مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .


أَيْ سَاحِرًا بِغَرَائِب أَفْعَالك ; قَالَهُ الْفَرَّاء وَأَبُو عُبَيْدَة . فَوَضَعَ الْمَفْعُول مَوْضِع الْفَاعِل ; كَمَا تَقُول : هَذَا مَشْئُوم وَمَيْمُون , أَيْ شَائِم وَيَامِن . وَقِيلَ مَخْدُوعًا . وَقِيلَ مَغْلُوبًا ; قَالَهُ مُقَاتِل . وَقِيلَ غَيْر هَذَا ; وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي نَهِيك أَنَّهُمَا قَرَآ " فَسَئَلَ بَنِي إِسْرَائِيل " عَلَى الْخَبَر ; أَيْ سَأَلَ مُوسَى فِرْعَوْن أَنْ يُخَلِّي بَنِي إِسْرَائِيل وَيُطْلِق سَبِيلهمْ وَيُرْسِلهُمْ مَعَهُ .
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًاسورة الإسراء الآية رقم 102
يَعْنِي الْآيَات التِّسْع . و " أَنْزَلَ " بِمَعْنَى أَوْجَدَ .



أَيْ دَلَالَات يُسْتَدَلّ بِهَا عَلَى قُدْرَته وَوَحْدَانِيّته . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " عَلِمْتَ " بِفَتْحِ التَّاء , خِطَابًا لِفِرْعَوْن . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ بِضَمِّ التَّاء , وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَقَالَ : وَاَللَّه مَا عَلِمَ عَدُوّ اللَّه وَلَكِنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي يَعْلَم , فَبَلَغَتْ اِبْن عَبَّاس فَقَالَ : إِنَّهَا " لَقَدْ عَلِمْت " , وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسهمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا " [ النَّمْل : 14 ] . وَنَسَبَ فِرْعَوْن إِلَى الْعِنَاد . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : وَالْمَأْخُوذ بِهِ عِنْدنَا فَتْح التَّاء , وَهُوَ الْأَصَحّ لِلْمَعْنَى الَّذِي اِحْتَجَّ بِهِ اِبْن عَبَّاس ; وَلِأَنَّ مُوسَى لَا يَحْتَجّ بِقَوْلِهِ : عَلِمْت أَنَا , وَهُوَ الرَّسُول الدَّاعِي , وَلَوْ كَانَ مَعَ هَذَا كُلّه تَصِحّ بِهِ الْقِرَاءَة عَنْ عَلِيّ لَكَانَتْ حُجَّة , وَلَكِنْ لَا تَثْبُت عَنْهُ , إِنَّمَا هِيَ عَنْ كُلْثُوم الْمُرَادِيّ وَهُوَ مَجْهُول لَا يُعْرَف , وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَرَأَ بِهَا غَيْر الْكِسَائِيّ . وَقِيلَ : إِنَّمَا أَضَافَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْن الْعِلْم بِهَذِهِ الْمُعْجِزَات ; لِأَنَّ فِرْعَوْن قَدْ عَلِمَ مِقْدَار مَا يَتَهَيَّأ لِلسَّحَرَةِ فِعْله , وَأَنَّ مِثْل مَا فَعَلَ مُوسَى لَا يَتَهَيَّأ لِسَاحِرٍ , وَأَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى فِعْله إِلَّا مَنْ يَفْعَل الْأَجْسَام وَيَمْلِك السَّمَوَات وَالْأَرْض . وَقَالَ مُجَاهِد : دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْن فِي يَوْم شَاتٍ وَعَلَيْهِ قَطِيفَة لَهُ , فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَان , فَرَأَى فِرْعَوْن جَانِبَيْ الْبَيْت بَيْن فُقْمَيْهَا , فَفَزِعَ وَأَحْدَثَ فِي قَطِيفَته .



الظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى التَّحْقِيق . وَالثُّبُور : الْهَلَاك وَالْخُسْرَان أَيْضًا . قَالَ الْكُمَيْت : وَرَأَتْ قُضَاعَة فِي الْأَيَا مِن رَأْي مَثْبُور وَثَابِر أَيْ مَخْسُور وَخَاسِر , يَعْنِي فِي اِنْتِسَابهَا إِلَى الْيُمْن . وَقِيلَ : مَلْعُونًا . رَوَاهُ الْمِنْهَال عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَهُ أَبَان بْن تَغْلِب . وَأَنْشَدَ : يَا قَوْمنَا لَا تَرُومُوا حَرْبنَا سَفَهًا إِنَّ السَّفَاه وَإِنَّ الْبَغْي مَثْبُور أَيْ مَلْعُون . وَقَالَ مَيْمُون بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس : " مَثْبُورًا " نَاقِص الْعَقْل . وَنَظَرَ الْمَأْمُون رَجُلًا فَقَالَ لَهُ : يَا مَثْبُور ; فَسَأَلَ عَنْهُ قَالَ . قَالَ الرَّشِيد قَالَ الْمَنْصُور لِرَجُلٍ : مَثْبُور ; فَسَأَلْته فَقَالَ : حَدَّثَنِي مَيْمُون بْن مِهْرَان . .. فَذَكَرَهُ . وَقَالَ قَتَادَة هَالِكًا . وَعَنْهُ أَيْضًا وَالْحَسَن وَمُجَاهِد . مُهْلَكًا . وَالثُّبُور : الْهَلَاك ; يُقَال : ثَبَرَ اللَّه الْعَدُوّ ثُبُورًا أَهْلَكَهُ . وَقِيلَ : مَمْنُوعًا مِنْ الْخَيْر حَكَى أَهْل اللُّغَة : مَا ثَبَرَكَ عَنْ كَذَا أَيْ مَا مَنَعَك مِنْهُ . وَثَبَرَهُ اللَّه ثَبْرًا . قَالَ اِبْن الزِّبَعْرَى : إِذْ أُجَارِي الشَّيْطَان فِي سَنَن الْغَ يّ وَمَنْ مَالَ مَيْله مَثْبُور الضَّحَّاك : " مَثْبُورًا " مَسْحُورًا . رَدَّ عَلَيْهِ مِثْل مَا قَالَ لَهُ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : " مَثْبُورًا " مَخْبُولًا لَا عَقْل لَهُ .
فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًاسورة الإسراء الآية رقم 103
أَيْ أَرَادَ فِرْعَوْن أَنْ يَخْرُج مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيل مِنْ أَرْض مِصْر بِالْقَتْلِ أَوْ الْإِبْعَاد ; فَأَهْلَكَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًاسورة الإسراء الآية رقم 104
أَيْ مِنْ بَعْد إِغْرَاقه


أَيْ أَرْض الشَّأْم وَمِصْر .


أَيْ الْقِيَامَة . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : " فَإِذَا جَاءَ وَعْد الْآخِرَة " يَعْنِي مَجِيء عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ السَّمَاء .



أَيْ مِنْ قُبُوركُمْ مُخْتَلَطِينَ مِنْ كُلّ مَوْضِع , قَدْ اِخْتَلَطَ الْمُؤْمِن بِالْكَافِرِ لَا يَتَعَارَفُونَ وَلَا يَنْحَاز أَحَد مِنْكُمْ إِلَى قَبِيلَته وَحَيّه . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : جِئْنَا بِكُمْ جَمِيعًا مِنْ جِهَات شَتَّى . وَالْمَعْنَى وَاحِد . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَاللَّفِيف مَا اِجْتَمَعَ مِنْ النَّاس مِنْ قَبَائِل شَتَّى ; يُقَال : جَاءَ الْقَوْم بِلَفِّهِمْ وَلَفِيفهمْ , أَيْ وَأَخْلَاطهمْ . وَقَوْله تَعَالَى " جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " أَيْ مُجْتَمَعِينَ مُخْتَلَطِينَ . وَطَعَام لَفِيف إِذَا كَانَ مَخْلُوطًا مِنْ جِنْسَيْنِ فَصَاعِدًا . وَفُلَان لَفِيف فُلَان أَيْ صَدِيقه . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : اللَّفِيف جَمْع وَلَيْسَ لَهُ وَاحِد , وَهُوَ مِثْل الْجَمِيع . وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ وَقْت الْحَشْر مِنْ الْقُبُور كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِر , مُخْتَلَطِينَ لَا يَتَعَارَفُونَ .
وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 105
هَذَا مُتَّصِل بِمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْر الْمُعْجِزَات وَالْقُرْآن . وَالْكِنَايَة تَرْجِع إِلَى الْقُرْآن . وَوَجْه التَّكْرِير فِي قَوْله " وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " يَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى الْأَوَّل : أَوْجَبْنَا إِنْزَاله بِالْحَقِّ . وَمَعْنَى الثَّانِي : وَنَزَلَ وَفِيهِ الْحَقّ ; كَقَوْلِهِ خَرَجَ بِثِيَابِهِ , أَيْ وَعَلَيْهِ ثِيَابه . وَقِيلَ الْبَاء فِي " وَبِالْحَقِّ " الْأَوَّل بِمَعْنَى مَعَ , أَيْ مَعَ الْحَقّ ; كَقَوْلِك رَكِبَ الْأَمِير بِسَيْفِهِ أَيْ مَعَ سَيْفه . " وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " أَيْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَيْ نَزَلَ عَلَيْهِ , كَمَا تَقُول نَزَلْت بِزَيْدٍ . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَبِالْحَقِّ قَدَّرْنَا أَنْ يَنْزِل , وَكَذَلِكَ نَزَلَ .


يُرِيد بِالْجَنَّةِ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا مِنْ النَّار ; وَمَا أَرْسَلْنَاك وَكِيلًا وَلَا مُسَيْطِرًا .
وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاًسورة الإسراء الآية رقم 106
مَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ " قُرْآنًا " مَنْصُوب بِفِعْلٍ مُضْمَر يُفَسِّرهُ الظَّاهِر . وَقَرَأَ جُمْهُور النَّاس " فَرَقْنَاهُ " بِتَخْفِيفِ الرَّاء , وَمَعْنَاهُ بَيَّنَّاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ , وَفَرَّقْنَا فِيهِ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : فَصَّلْنَاهُ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَقَتَادَة وَأَبُو رَجَاء وَالشَّعْبِيّ " فَرَّقْنَاهُ " بِالتَّشْدِيدِ , أَيْ أَنْزَلْنَاهُ شَيْئًا بَعْد شَيْء لَا جُمْلَة وَاحِدَة ; إِلَّا أَنَّ فِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ " فَرَقْنَاهُ عَلَيْك " . وَاخْتُلِفَ فِي كَمْ نَزَلَ الْقُرْآن مِنْ الْمُدَّة ; فَقِيلَ : فِي خَمْس وَعِشْرِينَ سَنَة . اِبْن عَبَّاس : فِي ثَلَاث وَعِشْرِينَ . أَنَس : فِي عِشْرِينَ . وَهَذَا بِحَسَبِ الْخِلَاف فِي سِنّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا خِلَاف أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا جُمْلَة وَاحِدَة . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي [ الْبَقَرَة ] .



أَيْ تَطَاوُل فِي الْمُدَّة شَيْئًا بَعْد شَيْء . وَيَتَنَاسَق هَذَا الْقُرْآن عَلَى قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود , أَيْ أَنْزَلْنَاهُ آيَة آيَة وَسُورَة سُورَة . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَيَكُون " عَلَى مُكْث " أَيْ عَلَى تَرَسُّل فِي التِّلَاوَة وَتَرْتِيل ; قَالَهُ مُجَاهِد وَابْن عَبَّاس وَابْن جُرَيْج . فَيُعْطِي الْقَارِئ الْقِرَاءَة حَقّهَا مِنْ تَرْتِيلهَا وَتَحْسِينهَا وَتَطْيِيبهَا بِالصَّوْتِ الْحَسَن مَا أَمْكَنَ مِنْ غَيْر تَلْحِين وَلَا تَطْرِيب مُؤَدٍّ إِلَى تَغْيِير لَفْظ الْقُرْآن بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَان فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَام عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّل الْكِتَاب . وَأَجْمَعَ الْقُرَّاء عَلَى ضَمّ الْمِيم مِنْ " مُكْث " إِلَّا اِبْن مُحَيْصِن فَإِنَّهُ قَرَأَ " مُكْث " بِفَتْحِ الْمِيم . وَيُقَال : مَكْث وَمُكْث وَمِكْث ; ثَلَاث لُغَات . قَالَ مَالِك : " عَلَى مُكْث " عَلَى تَثَبُّت وَتَرَسُّل .


مُبَالَغَة وَتَأْكِيد بِالْمَصْدَرِ لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّم , أَيْ أَنْزَلْنَاهُ نَجْمًا بَعْد نَجْم ; وَلَوْ أَخَذُوا بِجَمِيعِ الْفَرَائِض فِي وَقْت وَاحِد لَنَفَرُوا .
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًاسورة الإسراء الآية رقم 107
يَعْنِي الْقُرْآن . وَهَذَا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى وَجْه التَّبْكِيت لَهُمْ وَالتَّهْدِيد لَا عَلَى وَجْه التَّخْيِير .


أَيْ مِنْ قَبْل نُزُول الْقُرْآن وَخُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْل الْكِتَاب ; فِي قَوْل اِبْن جُرَيْج وَغَيْره . قَالَ اِبْن جُرَيْج : مَعْنَى " إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ " كِتَابهمْ . وَقِيلَ الْقُرْآن . وَقِيلَ : هُمْ قَوْم مِنْ وَلَد إِسْمَاعِيل تَمَسَّكُوا بِدِينِهِمْ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّه تَعَالَى النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام , مِنْهُمْ زَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْل وَوَرَقَة بْن نَوْفَل . وَعَلَى هَذَا لَيْسَ يُرِيد أُوتُوا الْكِتَاب بَلْ يُرِيد أُوتُوا عِلْم الدِّين . وَقَالَ الْحَسَن : الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّهُمْ نَاس مِنْ الْيَهُود ; وَهُوَ أَظْهَر لِقَوْلِهِ " مِنْ قَبْله " .



يَعْنِي الْقُرْآن فِي قَوْل مُجَاهِد . كَانُوا إِذَا سَمِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْقُرْآن سَجَدُوا وَقَالُوا : " سُبْحَان رَبّنَا إِنْ كَانَ وَعْد رَبّنَا لَمَفْعُولًا " . وَقِيلَ : كَانُوا إِذَا تَلُوا كِتَابهمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآن خَشَعُوا وَسَجَدُوا وَسَبَّحُوا , وَقَالُوا : هَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِي التَّوْرَاة , وَهَذِهِ صِفَته , وَوَعْد اللَّه بِهِ وَاقِع لَا مَحَالَة , وَجَنَحُوا إِلَى الْإِسْلَام ; فَنَزَلَتْ الْآيَة فِيهِمْ . وَقَالَتْ فِرْقَة : الْمُرَاد بِاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم مِنْ قَبْله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالضَّمِير فِي " قَبْله " عَائِد عَلَى الْقُرْآن حَسْب الضَّمِير فِي قَوْله " قُلْ آمِنُوا بِهِ " . وَقِيلَ : الضَّمِيرَانِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاسْتَأْنَفَ ذِكْر الْقُرْآن فِي قَوْله : " إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ " .



الْأَذْقَان جَمْع ذَقَن , وَهُوَ مُجْتَمَع اللَّحْيَيْنِ . وَقَالَ الْحَسَن : الْأَذْقَان عِبَارَة عَنْ اللِّحَى ; أَيْ يَضَعُونَهَا عَلَى الْأَرْض فِي حَال السُّجُود , وَهُوَ غَايَة التَّوَاضُع . وَاللَّام بِمَعْنَى عَلَى ; تَقُول سَقَطَ لِفِيهِ أَيْ عَلَى فِيهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا " أَيْ لِلْوُجُوهِ , وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَذْقَان بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الذَّقَن أَقْرَب شَيْء مِنْ وَجْه الْإِنْسَان . قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : وَلَا يَجُوز السُّجُود عَلَى الذَّقَن ; لِأَنَّ الذَّقَن هَاهُنَا عِبَارَة عَنْ الْوَجْه , وَقَدْ يُعَبَّر بِالشَّيْءِ عَمَّا جَاوَرَهُ وَبِبَعْضِهِ عَنْ جَمِيعه ; فَيُقَال : خَرَّ لِوَجْهِهِ سَاجِدًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْجُد عَلَى خَدّه وَلَا عَيْنه . أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله : فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ فَإِنَّمَا أَرَادَ : خَرَّ صَرِيعًا عَلَى وَجْهه وَيَدَيْهِ .
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاًسورة الإسراء الآية رقم 108
دَلِيل عَلَى جَوَاز التَّسْبِيح فِي السُّجُود . وَفِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِر أَنْ يَقُول فِي سُجُوده وَرُكُوعه ( سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ) .
وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًاسورة الإسراء الآية رقم 109
هَذِهِ مُبَالَغَة فِي صِفَتهمْ وَمَدْح لَهُمْ . وَحَقّ لِكُلِّ مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ وَحَصَلَ مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِي إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَة , فَيَخْشَع عِنْد اِسْتِمَاع الْقُرْآن وَيَتَوَاضَع وَيَذِلّ . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ أَبِي مُحَمَّد عَنْ التَّيْمِيّ قَالَ : مَنْ أُوتِيَ مِنْ الْعِلْم مَا لَمْ يُبْكِهِ لَخَلِيق أَلَّا يَكُون أُوتِيَ عِلْمًا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى نَعَتَ الْعُلَمَاء , ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة . ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ أَيْضًا . وَالْأَذْقَان جَمْع ذَقَن , وَهُوَ مُجْتَمَع اللَّحْيَيْنِ . وَقَالَ الْحَسَن : الْأَذْقَان عِبَارَة عَنْ اللِّحَى .



فِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْبُكَاء فِي الصَّلَاة مِنْ خَوْف اللَّه تَعَالَى , أَوْ عَلَى مَعْصِيَته فِي دِين اللَّه , وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعهَا وَلَا يَضُرّهَا . ذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيّ عَنْ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه بْن الشِّخِّير عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيز كَأَزِيزِ الْمِرْجَل مِنْ الْبُكَاء . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد : وَفِي صَدْره أَزِيز كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاء .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي الْأَنِين ; فَقَالَ مَالِك : الْأَنِين لَا يَقْطَع الصَّلَاة لِلْمَرِيضِ , وَأَكْرَههُ لِلصَّحِيحِ ; وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ . وَرَوَى اِبْن الْحَكَم عَنْ مَالِك : التَّنَحْنُح وَالْأَنِين وَالنَّفْخ لَا يَقْطَع الصَّلَاة . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يَقْطَع . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ كَانَ لَهُ حُرُوف تُسْمَع وَتُفْهَم يَقْطَع الصَّلَاة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ كَانَ مِنْ خَوْف اللَّه لَمْ يَقْطَع , وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَع قَطَعَ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف أَنَّ صَلَاته فِي ذَلِكَ كُلّه تَامَّة ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مَرِيض وَلَا ضَعِيف مِنْ أَنِين .



الْخَاشِعُونَ جَمْع خَاشِع وَهُوَ الْمُتَوَاضِع وَالْخُشُوع هَيْئَة فِي النَّفْس يَظْهَر مِنْهَا فِي الْجَوَارِح سُكُون وَتَوَاضُع وَقَالَ قَتَادَة الْخُشُوع فِي الْقَلْب وَهُوَ الْخَوْف وَغَضّ الْبَصَر فِي الصَّلَاة

قَالَ الزَّجَّاج الْخَاشِع الَّذِي يَرَى أَثَر الَّذِي وَالْخُشُوع عَلَيْهِ كَخُشُوعِ الدَّار بَعْد الْإِقْوَاء هَذَا هُوَ الْأَصْل قَالَ النَّابِغَة رَمَاد كَكُحْلِ الْعَيْن لَأْيًا أُبَيِّنهُ وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْض أَثْلَم خَاشِع وَمَكَان خَاشِع : لَا يُهْتَدَى لَهُ . وَخَشَعَتْ الْأَصْوَات أَيْ سَكَنَتْ وَخَشَعَتْ خَرَاشِيّ صَدْره إِذَا أَلْقَى بُصَاقًا لَزِجًا وَخَشَعَ بِبَصَرِهِ إِذَا غَضَّهُ وَالْخُشْعَة قِطْعَة مِنْ الْأَرْض رِخْوَة وَفِي الْحَدِيث ( كَانَتْ خُشْعَة عَلَى الْمَاء ثُمَّ دُحِيَتْ بَعْد ) وَبَلْدَة خَاشِعَة مُغْبَرَّة لَا مَنْزِل بِهَا قَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ سَأَلْت الْأَعْمَش عَنْ الْخُشُوع فَقَالَ يَا ثَوْرِيّ أَنْتَ تُرِيد أَنْ تَكُون إِمَامًا لِلنَّاسِ وَلَا تَعْرِف الْخُشُوع سَأَلْت إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ عَنْ الْخُشُوع فَقَالَ أُعَيْمِش تُرِيد أَنْ تَكُون إِمَامًا لِلنَّاسِ وَلَا تَعْرِف الْخُشُوع لَيْسَ الْخُشُوع بِأَكْلِ الْخَشِن وَلُبْس الْخَشِن وَتَطَأْطُؤ الرَّأْس لَكِنَّ الْخُشُوع أَنْ تَرَى الشَّرِيف وَالدَّنِيء فِي الْحَقّ سَوَاء وَتَخْشَع لِلَّهِ فِي كُلّ فَرْض افْتُرِضَ عَلَيْك وَنَظَرَ عُمَر بْن الْخَطَّاب إِلَى شَابّ قَدْ نَكَّسَ رَأْسه فَقَالَ يَا هَذَا اِرْفَعْ رَأْسك ( فَإِنَّ الْخُشُوع لَا يَزِيد عَلَى مَا فِي الْقَلْب . )

وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : ( الْخُشُوع فِي الْقَلْب , وَأَنْ تَلِينَ كَفَّيْك لِلْمَرْءِ الْمُسْلِم وَأَلَّا تَلْتَفِت فِي صَلَاتك . ) وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا عِنْد قَوْله تَعَالَى " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتهمْ خَاشِعُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 2 ] فَمَنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ خُشُوعًا فَوْق مَا فِي قَلْبه فَإِنَّمَا أَظْهَرَ نِفَاقًا عَلَى نِفَاق قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه لَا يَكُون خَاشِعًا حَتَّى تَخْشَع كُلّ شَعْرَة عَلَى جَسَده لِقَوْلِ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى " تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُود الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهمْ " [ الزُّمَر : 23 ]

قُلْت : هَذَا هُوَ الْخُشُوع الْمَحْمُود لِأَنَّ الْخَوْف إِذَا سَكَنَ الْقَلْب أَوْجَبَ خُشُوع الظَّاهِر فَلَا يَمْلِك صَاحِبه دَفْعه فَتَرَاهُ مُطْرِقًا مُتَأَدِّبًا مُتَذَلِّلًا وَقَدْ كَانَ السَّلَف يَجْتَهِدُونَ فِي سَتْر مَا يَظْهَر مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَذْمُوم فَتَكَلُّفه وَالتَّبَاكِي وَمُطَأْطَأَة الرَّأْس كَمَا يَفْعَلهُ الْجُهَّال لِيُرَوْا بِعَيْنِ الْبِرّ وَالْإِجْلَال وَذَلِكَ خَدْع مِنْ الشَّيْطَان وَتَسْوِيل مِنْ نَفْس الْإِنْسَان رَوَى الْحَسَن أَنَّ رَجُلًا تَنَفَّسَ عِنْد عُمَر بْن الْخَطَّاب كَأَنَّهُ يَتَحَازَن فَلَكَزَهُ عُمَر أَوْ قَالَ لَكَمَهُ وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذَا تَكَلَّمَ أَسْمَعَ وَإِذَا مَشَى أَسْرَعَ وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ وَكَانَ نَاسِكًا صِدْقًا وَخَاشِعًا حَقًّا وَرَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ الْخَاشِعُونَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاًسورة الإسراء الآية رقم 110
سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَمِعُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو ( يَا اللَّه يَا رَحْمَن ) فَقَالُوا : كَانَ مُحَمَّد يَأْمُرنَا بِدُعَاءِ إِلَه وَاحِد وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ مَكْحُول : تَهَجَّدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة فَقَالَ فِي دُعَائِهِ : ( يَا رَحْمَن يَا رَحِيم ) فَسَمِعَهُ رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَكَانَ بِالْيَمَامَةِ رَجُل يُسَمَّى الرَّحْمَن , فَقَالَ ذَلِكَ السَّامِع : مَا بَال مُحَمَّد يَدْعُو رَحْمَان الْيَمَامَة . فَنَزَلَتْ الْآيَة مُبَيِّنَة أَنَّهُمَا اِسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِد ; فَإِنْ دَعَوْتُمُوهُ بِاَللَّهِ فَهُوَ ذَاكَ , وَإِنْ دَعَوْتُمُوهُ بِالرَّحْمَنِ فَهُوَ ذَاكَ . وَقِيلَ : كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صَدْر الْكُتُب : بِاسْمِك اللَّهُمَّ ; فَنَزَلَتْ " إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَان وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم " [ النَّمْل : 30 ] فَكَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم " فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : هَذَا الرَّحِيم نَعْرِفهُ فَمَا الرَّحْمَن ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّ الْيَهُود قَالَتْ : مَا لَنَا لَا نَسْمَع فِي الْقُرْآن اِسْمًا هُوَ فِي التَّوْرَاة كَثِير ; يَعْنُونَ الرَّحْمَن ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " أَيًّا مَا تَدْعُو فَلَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى " أَيْ الَّتِي تَقْتَضِي أَفْضَل الْأَوْصَاف وَأَشْرَف الْمَعَانِي . وَحُسْن الْأَسْمَاء إِنَّمَا يَتَوَجَّه بِتَحْسِينِ الشَّرْع ; لِإِطْلَاقِهَا وَالنَّصّ عَلَيْهَا . وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَقْتَضِي مَعَانٍ حِسَانًا شَرِيفَة , وَهِيَ بِتَوْقِيفٍ لَا يَصِحّ وَضْع اِسْم لِلَّهِ بِنَظَرٍ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْ الْقُرْآن أَوْ الْحَدِيث أَوْ الْإِجْمَاع . حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي ( الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى ) .



اِخْتَلَفُوا فِي سَبَب نُزُولهَا عَلَى خَمْسَة أَقْوَال : [ الْأَوَّل ] مَا رَوَى اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تَجْهَر بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِت بِهَا " قَالَ : نَزَلَتْ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَارٍ بِمَكَّة , وَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْته بِالْقُرْآنِ , فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآن وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى " وَلَا تَجْهَر بِصَلَاتِك " فَيَسْمَع الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتك . " وَلَا تُخَافِت بِهَا " عَنْ أَصْحَابك . أَسْمِعْهُمْ الْقُرْآن وَلَا تَجْهَر ذَلِكَ الْجَهْر . " وَابْتَغِ بَيْن ذَلِكَ سَبِيلًا " قَالَ : يَقُول بَيْن الْجَهْر وَالْمُخَافَتَة ; أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمْ . وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ . وَالْمُخَافَتَة : خَفْض الصَّوْت وَالسُّكُون ; يُقَال لِلْمَيِّتِ إِذَا بَرَدَ : خَفَتَ . قَالَ الشَّاعِر : لَمْ يَبْقَ إِلَّا نَفَس خَافِت وَمُقْلَة إِنْسَانهَا بَاهِت رَثَى لَهَا الشَّامِت مِمَّا بِهَا يَا وَيْح مَنْ يَرْثِي لَهُ الشَّامِت [ الثَّانِي ] مَا رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضًا عَنْ عَائِشَة فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تَجْهَر بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِت بِهَا " قَالَتْ : أُنْزِلَ هَذَا فِي الدُّعَاء . [ الثَّالِث ] قَالَ اِبْن سِيرِينَ : كَانَ الْأَعْرَاب يَجْهَرُونَ بِتَشَهُّدِهِمْ فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي ذَلِكَ .

قُلْت : وَعَلَى هَذَا فَتَكُون الْآيَة مُتَضَمِّنَة لِإِخْفَاءِ التَّشَهُّد , وَقَدْ قَالَ اِبْن مَسْعُود : مِنْ السُّنَّة أَنْ تُخْفِي التَّشَهُّد ; ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر . [ الرَّابِع ] مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن سِيرِينَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يُسِرّ قِرَاءَته , وَكَانَ عُمَر يَجْهَر بِهَا , فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ ; فَقَالَ أَبُو بَكْر : إِنَّمَا أُنَاجِي رَبِّي , وَهُوَ يَعْلَم حَاجَتِي . إِلَيْهِ . وَقَالَ عُمَر : أَنَا أَطْرُد الشَّيْطَان وَأُوقِظ الْوَسْنَان ; فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قِيلَ لِأَبِي بَكْر : اِرْفَعْ قَلِيلًا , وَقِيلَ لِعُمَر اِخْفِضْ أَنْتَ قَلِيلًا ; ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ وَغَيْره . [ الْخَامِس ] مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهَا وَلَا تَجْهَر بِصَلَاةِ النَّهَار , وَلَا تُخَافِت بِصَلَاةِ اللَّيْل ; ذَكَرَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام وَالزَّهْرَاوِيّ . فَتَضَمَّنَتْ أَحْكَام الْجَهْر وَالْإِسْرَار بِالْقِرَاءَةِ فِي النَّوَافِل وَالْفَرَائِض , فَأَمَّا النَّوَافِل فَالْمُصَلِّي مُخَيَّر فِي الْجَهْر وَالسِّرّ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار , وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَل الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . وَأَمَّا الْفَرَائِض فَحُكْمهَا فِي الْقِرَاءَة مَعْلُوم لَيْلًا وَنَهَارًا . [ وَقَوْل سَادِس ] قَالَ الْحَسَن : يَقُول اللَّه لَا تُرَائِي بِصَلَاتِك تُحَسِّنهَا فِي الْعَلَانِيَة وَلَا تُسِيئهَا فِي السِّرّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا تُصَلِّ مُرَائِيًا لِلنَّاسِ وَلَا تَدَعهَا مَخَافَة النَّاس .

عَبَّرَ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ هُنَا عَنْ الْقِرَاءَة كَمَا عَبَّرَ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ الصَّلَاة فِي قَوْله : " وَقُرْآن الْفَجْر إِنَّ قُرْآن الْفَجْر كَانَ مَشْهُودًا " [ الْإِسْرَاء : 78 ] لِأَنَّ سكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مُرْتَبِط بِالْآخَرِ ; لِأَنَّ الصَّلَاة تَشْتَمِل عَلَى قِرَاءَة وَرُكُوع وَسُجُود فَهِيَ مِنْ جُمْلَة أَجْزَائِهَا ; فَعَبَّرَ بِالْجُزْءِ عَنْ الْجُمْلَة وَبِالْجُمْلَةِ عَنْ الْجُزْء عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي الْمَجَاز وَهُوَ كَثِير ; وَمِنْهُ الْحَدِيث الصَّحِيح : ( قَسَمْت الصَّلَاة بَيْنِي وَبَيْن عَبْدِي ) أَيْ قِرَاءَة الْفَاتِحَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 111
هَذِهِ الْآيَة رَادَّة عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْعَرَب فِي قَوْلهمْ أَفْذَاذًا : عُزَيْر وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَة ذُرِّيَّة اللَّه سُبْحَانه ; تَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَقْوَالهمْ !


لِأَنَّهُ وَاحِد لَا شَرِيك لَهُ فِي مُلْكه وَلَا فِي عِبَادَته .



قَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى لَمْ يُحَالِف أَحَدًا وَلَا اِبْتَغَى نَصْر أَحَد ; أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاصِر يُجِيرهُ مِنْ الذُّلّ فَيَكُون مُدَافِعًا . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيّ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; لِأَنَّهُمْ أَذَلّ النَّاس , رَدًّا لِقَوْلِهِمْ : نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ . وَقَالَ الْحَسَن بْن الْفَضْل : " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيّ مِنْ الذُّلّ " يَعْنِي لَمْ يَذِلّ فَيَحْتَاج إِلَى وَلِيّ وَلَا نَاصِر لِعِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ .



أَيْ عَظِّمْهُ عَظَمَة تَامَّة . وَيُقَال : أَبْلَغ لَفْظَة لِلْعَرَبِ فِي مَعْنَى التَّعْظِيم وَالْإِجْلَال : اللَّه أَكْبَر ; أَيْ صِفَة بِأَنَّهُ أَكْبَر مِنْ كُلّ شَيْء . قَالَ الشَّاعِر : رَأَيْت اللَّه أَكْبَر كُلّ شَيْء مُحَاوَلَة وَأَكْثَرهمْ جُنُودًا وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاة قَالَ : ( اللَّه أَكْبَر ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل الْكِتَاب . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب . قَوْلُ الْعَبْدِ اللَّه أَكْبَر خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا . وَهَذَا الْآيَة هِيَ خَاتِمَة التَّوْرَاة . رَوَى مُطَرِّف عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَعْب قَالَ : اُفْتُتِحَتْ التَّوْرَاة بِفَاتِحَةِ سُورَة [ الْأَنْعَام ] وَخُتِمَتْ بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَة . وَفِي الْخَبَر أَنَّهَا آيَة الْعِزّ ; رَوَاهُ مُعَاذ بْن جَبَل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَى عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْصَحَ الْغُلَام مِنْ بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب عَلَّمَهُ " وَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي " الْآيَة . وَقَالَ عَبْد الْحَمِيد بْن وَاصِل : سَمِعْت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ وَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الْآيَة كَتَبَ اللَّه لَهُ مِنْ الْأَجْر مِثْل الْأَرْض وَالْجَبَل لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا تَكَاد السَّمَوَات يَتَفَطَّرْن مِنْهُ وَتَنْشَقّ الْأَرْض وَتَخِرّ الْجِبَال هَدًّا ) . وَجَاءَ فِي الْخَبَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُل شَكَا إِلَيْهِ الدَّيْن بِأَنْ يَقْرَأ " قُلْ اُدْعُوا اللَّه أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَن " [ الْإِسْرَاء : 110 ] - إِلَى آخِر السُّورَة ثُمَّ يَقُول - تَوَكَّلْت عَلَى الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت ثَلَاث مَرَّات . تَمَّتْ سُورَة الْإِسْرَاء وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْده .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4