الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىسورة طه الآية رقم 91
أَيْ لَنْ نِزَال مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَة الْعِجْل .


فَيَنْظُر هَلْ يَعْبُدهُ كَمَا عَبَدْنَاهُ ; فَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُوسَى يَعْبُد الْعِجْل , فَاعْتَزَلَهُمْ هَارُون فِي اثْنَيْ عَشَر أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْل , فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَسَمِعَ الصِّيَاح وَالْجَلَبَة وَكَانُوا يَرْقُصُونَ حَوْل الْعِجْل قَالَ لِلسَّبْعِينَ مَعَهُ هَذَا صَوْت الْفِتْنَة ; فَلَمَّا رَأَى هَارُون أَخَذَ شَعْر رَأْسه بِيَمِينِهِ وَلِحْيَته بِشِمَالِهِ غَضَبًا
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواسورة طه الآية رقم 92
أَيْ أَخْطَئُوا الطَّرِيق وَكَفَرُوا .
أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِيسورة طه الآية رقم 93
" لَا " زَائِدَة أَيْ أَنْ تَتَّبِع أَمْرِي وَوَصِيَّتِي . وَقِيلَ : مَا مَنَعَك عَنْ اِتِّبَاعِي فِي الْإِنْكَار عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ هَلَّا قَاتَلْتهمْ إِذْ قَدْ عَلِمْت أَنِّي لَوْ كُنْت بَيْنهمْ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى كُفْرهمْ . وَقِيلَ : مَا مَنَعَك مِنْ اللُّحُوق بِي لَمَّا فُتِنُوا .



يُرِيد أَنَّ مَقَامك بَيْنهمْ وَقَدْ عَبَدُوا غَيْر اللَّه تَعَالَى عِصْيَان مِنْك لِي ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ هَلَّا فَارَقْتهمْ فَتَكُون مُفَارَقَتك إِيَّاهُمْ تَقْرِيعًا لَهُمْ وَزَجْرًا . وَمَعْنَى : " أَفَعَصَيْت أَمْرِي " قِيلَ : إِنَّ أَمْره مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ " وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِع سَبِيل الْمُفْسِدِينَ " [ الْأَعْرَاف : 142 ] , فَلَمَّا أَقَامَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُبَالِغ فِي مَنْعهمْ وَالْإِنْكَار عَلَيْهِمْ نَسَبَهُ إِلَى عِصْيَانه وَمُخَالَفَة أَمْره . مَسْأَلَة : وَهَذَا كُلّه أَصْل فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَتَغْيِيره وَمُفَارَقَة أَهْله , وَأَنَّ الْمُقِيم بَيْنهمْ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ رَاضِيًا حُكْمه كَحُكْمِهِمْ . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آل عِمْرَان وَالنِّسَاء وَالْمَائِدَة وَالْأَنْعَام وَالْأَعْرَاف وَالْأَنْفَال

وَسُئِلَ الْإِمَام أَبُو بَكْر الطُّرْطُوشِيّ رَحِمَهُ اللَّه : مَا يَقُول سَيِّدنَا الْفَقِيه فِي مَذْهَب الصُّوفِيَّة ؟ وَأُعْلِمَ - حَرَسَ اللَّه مُدَّته - أَنَّهُ اِجْتَمَعَ جَمَاعَة مِنْ رِجَال , فَيُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْر اللَّه تَعَالَى , وَذِكْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ إِنَّهُمْ يُوقِعُونَ بِالْقَضِيبِ عَلَى شَيْء مِنْ الْأَدِيم , وَيَقُوم بَعْضهمْ يَرْقُص وَيَتَوَاجَد حَتِّي يَقَع مَغْشِيًّا عَلَيْهِ , وَيَحْضُرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ . هَلْ الْحُضُور مَعَهُمْ جَائِز أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ , وَهَذَا الْقَوْل الَّذِي يَذْكُرُونَهُ يَا شَيْخ كُفَّ عَنْ الذُّنُوب قَبْل التَّفَرُّق وَالزَّلَل ش وَاعْمَلْ لِنَفْسِك صَالِحًا /و مَا دَامَ يَنْفَعك الْعَمَل ش أَمَّا الشَّبَاب فَقَدْ مَضَى وَمَشِيب رَأَسَك قَدْ نَزَل وَفِي مِثْل هَذَا وَنَحْوه .

الْجَوَاب - يَرْحَمك اللَّه - مَذْهَب الصُّوفِيَّة بَطَالَة وَجَهَالَة وَضَلَالَة , وَمَا الْإِسْلَام إِلَّا كِتَاب اللَّه وَسُنَّة رَسُول , وَأَمَّا الرَّقْص وَالتَّوَاجُد فَأَوَّل مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَاب السَّامِرِيّ , لَمَّا اِتَّخَذَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَار قَامُوا يَرْقُصُونَ حَوَالَيْهِ وَيَتَوَاجَدُونَ ; فَهُوَ دِين الْكُفَّار وَعُبَّاد الْعِجْل ; وَأَمَّا الْقَضِيب فَأَوَّل مَنْ اِتَّخَذَهُ الزَّنَادِقَة لِيَشْغَلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى ; وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابه كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسهمْ الطَّيْر مِنْ الْوَقَار ; فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابه أَنْ يَمْنَعهُمْ عَنْ الْحُضُور فِي الْمَسَاجِد وَغَيْرهَا ; وَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر أَنْ يَحْضُر مَعَهُمْ , وَلَا يُعِينهُمْ عَلَى بَاطِلهمْ ; هَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْرهمْ مِنْ أَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِيسورة طه الآية رقم 94
اِبْن عَبَّاس : أَخَذَ شَعْره بِيَمِينِهِ وَلِحْيَته بِيَسَارِهِ ; لِأَنَّ الْغَيْرَة فِي اللَّه مَلَكَته ; أَيْ لَا تَفْعَل هَذَا فَيَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ مِنْك اِسْتِخْفَاف أَوْ عُقُوبَة . وَقَدْ وَقِيلَ : إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا عَلَى غَيْر اِسْتِخْفَاف وَلَا عُقُوبَة كَمَا يَأْخُذ الْإِنْسَان بِلِحْيَةِ نَفْسه . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْأَعْرَاف " مُسْتَوْفًى وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم بِمَا أَرَادَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام



أَيْ خَشِيت أَنْ أَخْرُج وَأَتْرُكهُمْ وَقَدْ أَمَرْتنِي أَنْ أَخْرُج مَعَهُمْ فَلَوْ خَرَجْت لَاتَّبَعَنِي قَوْم وَيَتَخَلَّف مَعَ الْعِجْل قَوْم ; وَرُبَّمَا أَدَّى الْأَمْر إِلَى سَفْك الدِّمَاء ; وَخَشِيت إِنْ زَجَرْتهمْ أَنْ يَقَع قِتَال فَتَلُومنِي عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا جَوَاب هَارُون لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ قَوْله " أَفَعَصَيْت أَمْرِي " وَفِي الْأَعْرَاف " إِنَّ الْقَوْم اِسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِت بِيَ الْأَعْدَاء " [ الْأَعْرَاف : 150 ] لِأَنَّك أَمَرْتنِي أَنْ أَكُون مَعَهُمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَمَعْنَى


لَمْ تَعْمَل بِوَصِيَّتِي فِي حِفْظه ; قَالَهُ مُقَاتِل . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : لَمْ تَنْظُر عَهْدِي وَقُدُومِي . فَتَرَكَهُ مُوسَى ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْسَامِرِيّ
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّسورة طه الآية رقم 95
أَيْ , مَا أَمْرك وَشَأْنك , وَمَا الَّذِي حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت ؟ قَالَ قَتَادَة : كَانَ السَّامِرِيّ عَظِيمًا فِي بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ قَبِيلَة يُقَال لَهَا سَامِرَة وَلَكِنْ عَدُوّ اللَّه نَافَقَ بَعْد مَا قَطَعَ الْبَحْر مَعَ مُوسَى , فَلَمَّا مَرَّتْ بَنُو إِسْرَائِيل بِالْعَمَالِقَةِ وَهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَام لَهُمْ " قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة " [ الْأَعْرَاف : 138 ] فَاغْتَنَمَهَا السَّامِرِيّ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى عِبَادَة الْعِجْل فَاتَّخَذَ الْعَجِل .
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِيسورة طه الآية رقم 96
ف " قَالَ " السَّامِرِيّ مُجِيبًا لِمُوسَى " قَالَ بَصُرْت بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يَعْنِي : رَأَيْت مَا لَمْ يَرَوْا ; رَأَيْت جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى فَرَس الْحَيَاة , فَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنْ أَقْبِض مِنْ أَثَره قَبْضَة , فَمَا أَلْقَيْته عَلَى شَيْء إِلَّا صَارَ لَهُ رُوح وَلَحْم وَدَم ; فَلَمَّا سَأَلُوك أَنْ تَجْعَل لَهُمْ إِلَهًا زَيَّنَتْ لِي نَفْسِي ذَلِكَ . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَمَّا نَزَلَ جِبْرِيل لِيَصْعَد بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , إِلَى السَّمَاء , وَأَبْصَرَهُ السَّامِرِيّ مِنْ بَيْن النَّاس فَقَبَضَ قَبْضَة مِنْ أَثَر الْفَرَس . وَقِيلَ قَالَ السَّامِرِيّ رَأَيْت جِبْرِيل عَلَى الْفَرَس وَهِيَ تُلْقِي خَطْوهَا مَدّ الْبَصَر فَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنْ أَقْبِض مِنْ أَثَرهَا فَمَا أَلْقَيْته عَلَى شَيْء إِلَّا صَارَ لَهُ رُوح وَدَم . وَقِيلَ : رَأَى جِبْرِيل يَوْم نَزَلَ عَلَى رَمَكَة وَدِيق , فَتَقَدَّمَ خَيْل فِرْعَوْن فِي وُرُود الْبَحْر . وَيُقَال : إِنَّ أُمّ السَّامِرِيّ جَعَلَتْهُ حِين وَضَعَتْهُ فِي غَار خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقْتُلهُ فِرْعَوْن ; فَجَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام , فَجَعَلَ كَفّ السَّامِرِيّ فِي فَم السَّامِرِيّ , فَرَضَعَ الْعَسَل وَاللَّبَن فَاخْتُلِفَ إِلَيْهِ فَعَرَفَهُ مِنْ حِينَئِذٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْأَعْرَاف " . وَيُقَال : إِنَّ السَّامِرِيّ سَمِعَ كَلَام مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , حَيْثُ عَمِلَ تِمْثَالَيْنِ مِنْ شَمْع أَحَدهمَا ثَوْر وَالْآخَر فَرَس فَأَلْقَاهُمَا فِي النِّيل طَلَب قَبْر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ فِي تَابُوت مِنْ حَجَر فِي النِّيل فَأَتَى بِهِ الثَّوْر عَلَى قَرْنه , فَتَكَلَّمَ السَّامِرِيّ بِذَلِكَ الْكَلَام الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ مُوسَى , وَأَلْقَى الْقَبْضَة فِي جَوْف الْعِجْل فَخَارَ . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَالْأَعْمَش وَخَلَف " بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا " بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب . الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر .



وَقَرَأَ أُبَيّ بْن كَعْب وَابْن مَسْعُود وَالْحَسَن وَقَتَادَة " فَقَبَصْت قَبْصَة " بِصَادٍ غَيْر مُعْجَمَة . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن ضَمّ الْقَاف مِنْ " قُبْصَة " وَالصَّاد غَيْر مُعْجَمَة . الْبَاقُونَ : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة . وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الْقَبْض بِجَمِيعِ الْكَفّ , وَالْقَبْص بِأَطْرَافِ الْأَصَابِع , وَنَحْوهمَا الْخَضْم وَالْقَضْم , وَالْقُبْضَة بِضَمِّ الْقَاف الْقَدْر الْمَقْبُوض ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ . وَلَمْ يَذْكُر الْجَوْهَرِيّ " قُبْصَة " بِضَمِّ الْقَاف وَالصَّاد غَيْر مُعْجَمَة , وَإِنَّمَا ذَكَرَ " الْقُبْضَة " بِضَمِّ الْقَاف وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ مَا قَبَضْت عَلَيْهِ مِنْ شَيْء ; يُقَال : أَعْطَاهُ قُبْضَة مِنْ سَوِيق أَوْ تَمْر أَيْ كَفًّا مِنْهُ , وَرُبَّمَا جَاءَ بِالْفَتْحِ . قَالَ : وَالْقِبْص بِكَسْرِ الْقَاف وَالصَّاد غَيْر الْمُعْجَمَة الْعَدَد الْكَثِير مِنْ النَّاس ; قَالَ الْكُمَيْت لَكُمْ مَسْجِدَا اللَّه الْمَزُورَانِ وَالْحَصَى لَكُمْ قِبْصُهُ مِنْ بَيْن أَثْرَى وَأَقْتَرَا


أَيْ طَرَحْتهَا فِي الْعِجْل .


أَيْ زَيَّنَتْهُ ; قَالَهُ الْأَخْفَش . وَقَالَ اِبْن زَيْد : حَدَّثَتْنِي نَفْسِي . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب .
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًاسورة طه الآية رقم 97
أَيْ قَالَ لَهُ مُوسَى فَاذْهَبْ أَيْ مِنْ بَيْننَا


أَيْ لَا أُمَسّ وَلَا أَمَسّ طُول الْحَيَاة . فَنَفَاهُ مُوسَى عَنْ قَوْمه وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيل أَلَّا يُخَالِطُوهُ وَلَا يَقْرَبُوهُ وَلَا يُكَلِّمُوهُ عُقُوبَة لَهُ . قَالَ الشَّاعِر : تَمِيم كَرَهْطِ السَّامِرِيّ وَقَوْله أَلَا لَا يُرِيد السَّامِرِيّ مِسَاسَا قَالَ الْحَسَن جَعَلَ اللَّه عُقُوبَة السَّامِرِيّ أَلَّا يُمَاسّ النَّاس وَلَا يُمَاسُّوهُ عُقُوبَة لَهُ وَلِمَنْ كَانَ مِنْهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; وَكَأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ شَدَّدَ عَلَيْهِ الْمِحْنَة , بِأَنْ جَعَلَهُ لَا يُمَاسّ أَحَدًا وَلَا يُمَكَّن مِنْ أَنْ يَمَسّهُ أَحَد , وَجَعَلَ ذَلِكَ عُقُوبَة لَهُ فِي الدُّنْيَا . وَيُقَال : ابْتُلِيَ بِالْوَسْوَاسِ وَأَصْل الْوَسْوَاس مِنْ ذَلِكَ الْوَقْت . وَقَالَ قَتَادَة : بَقَايَاهُمْ إِلَى الْيَوْم يَقُولُونَ ذَلِكَ - لَا مِسَاس - وَإِنْ مَسَّ وَاحِد مِنْ غَيْرهمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حُمَّ كِلَاهُمَا فِي الْوَقْت . وَيُقَال : إِنَّ مُوسَى هَمَّ بِقَتْلِ السَّامِرِيّ , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ : لَا تَقْتُلهُ فَإِنَّهُ سَخِيّ . وَيُقَال لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى : " فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَك فِي الْحَيَاة أَنْ تَقُول لَا مِسَاس " خَافَ فَهَرَبَ فَجَعَلَ يَهِيم فِي الْبَرِيَّة مَعَ السِّبَاع وَالْوَحْشِيّ , لَا يَجِد أَحَدًا مِنْ النَّاس يَمَسّهُ حَتَّى صَارَ كَالْقَائِلِ لَا مِسَاس ; لِبُعْدِهِ عَنْ النَّاس وَبُعْد النَّاس عَنْهُ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : حَمَّال رَايَات بِهَا قَنَاعِسَا حَتَّى تَقُول الْأَزْد لَا مَسَابِسَا مَسْأَلَة : هَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي نَفْي أَهْل الْبِدَع وَالْمَعَاصِي وَهِجْرَانهمْ وَأَلَّا يُخَالَطُوا , وَقَدْ فَعَلَ النَّبِيّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِكَعْبِ بْن مَالِك وَالثَّلَاثَة الَّذِينَ خُلِّفُوا . وَمَنْ اِلْتَجَأَ إِلَى الْحَرَم وَعَلَيْهِ قُتِلَ وَلَا يُقْتَل عِنْد بَعْض الْفُقَهَاء , وَلَكِنْ لَا يُعَامَل وَلَا يُبَايَع وَلَا يُشَارَى , وَهُوَ إِرْهَاق إِلَى الْخُرُوج . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل التَّغْرِيب فِي حَدّ الزِّنَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيع هَذَا كُلّه فِي مَوْضِعه , فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده . وَقَالَ هَارُون الْقَارِئ : وَلُغَة الْعَرَب لَا مَسَاسِ بِكَسْرِ السِّين وَفَتْح الْمِيم , وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ ; فَقَالَ سِيبَوَيْهِ : هُوَ مَبْنِيّ عَلَى الْكَسْر كَمَا يُقَال اِضْرِبِ الرَّجُل . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق : لَا مِسَاس نَفْي وَكُسِرَتْ السِّين لِأَنَّ الْكَسْرَة مِنْ عَلَامَة التَّأْنِيث ; تَقُول فَعَلْت يَا اِمْرَأَة . قَالَ النَّحَّاس وَسَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول سَمِعْت مُحَمَّد بْن يَزِيد يَقُول : إِذَا اِعْتَلَّ الشَّيْء مِنْ ثَلَاث جِهَات وَجَبَ أَنْ يُبْنَى , وَإِذَا اِعْتَلَّ مِنْ جِهَتَيْنِ وَجَبَ أَلَّا يَنْصَرِف ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْد تَرْك الصَّرْف إِلَّا الْبِنَاء ; فَمِسَاس وَدِرَاك اِعْتَلَّ مِنْ ثَلَاث جِهَات : مِنْهَا أَنَّهُ مَعْدُول , وَمِنْهَا أَنَّهُ مُؤَنَّث , وَأَنَّهُ مَعْرِفَة ; فَلَمَّا وَجَبَ الْبِنَاء فِيهِ وَكَانَتْ الْأَلِف قَبْل السِّين سَاكِنَة كُسِرَتْ السِّين لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ; كَمَا تَقُول اِضْرِبِ الرَّجُل . وَرَأَيْت أَبَا إِسْحَاق يَذْهَب إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْل خَطَأ , وَأَلْزَم أَبَا الْعَبَّاس إِذَا سَمَّى أَمْرَأَة بِفِرْعَوْن يَبْنِيه , وَهَذَا لَا يَقُولهُ أَحَد . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح : وَأَمَّا قَوْل الْعَرَب لَا مَسَاس مِثَال قَطَام فَإِنَّمَا بُنِيَ عَلَى الْكَسْر لِأَنَّهُ مَعْدُول عَنْ الْمَصْدَر وَهُوَ الْمَسّ . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة " لَا مَسَاس " .



يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة . وَالْمَوْعِد مَصْدَر ; أَيْ إِنَّ لَك وَعْدًا لِعَذَابِك . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " تُخْلِفَهُ " بِكَسْرِ اللَّام وَلَهُ مَعْنَيَانِ : أَحَدهمَا : سَتَأْتِيهِ وَلَنْ تَجِدهُ مُخْلَفًا ; كَمَا تَقُول : أَحْمَدْته أَيْ وَجَدْته مَحْمُودًا . وَالثَّانِي : عَلَى التَّهْدِيد أَيْ لَا بُدّ لَك مِنْ أَنْ تَصِير إِلَيْهِ . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ اللَّام ; بِمَعْنَى : إِنَّ اللَّه لَنْ يُخْلِفك إِيَّاهُ .



أَيْ دُمْت وَأَقَمْت عَلَيْهِ , وَأَصْله ظَلَلْت ; قَالَ : خَلَا أَنَّ الْعِتَاق مِنْ الْمَطَايَا أَحْسَنَ بِهِ فَهُنَّ أَلِيه شُوش أَيْ أَحْسَن . وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْأَعْمَش بِلَامَيْنِ عَلَى الْأَصْل . وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " ظِلْت " بِكَسْرِ الظَّاء . يُقَال : ظَلَلْت أَفْعَل كَذَا إِذَا فَعَلْته نَهَارًا وَظَلْت وَظِلْت ; فَمَنْ قَالَ : ظَلْت حَذَفَ اللَّام الْأُولَى تَخْفِيفًا ; وَمَنْ قَالَ ظِلْت أَلْقَى حَرَكَة اللَّام عَلَى الظَّاء . " عَاكِفًا " أَيْ مُلَازِمًا .



قِرَاءَة الْعَامَّة بِضَمِّ النُّون وَشَدّ الرَّاء مِنْ حَرَّقَ يُحَرِّق . وَقَرَأَ الْحَسَن وَغَيْره بِضَمِّ النُّون وَسُكُون الْحَاء وَتَخْفِيف الرَّاء مِنْ أَحْرَقَهُ يُحْرِقهُ . وَقَرَأَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَأَبُو جَعْفَر وَابْن مُحَيْصِن وَأَشْهَب الْعُقَيْلِيّ " لَنَحْرُقَنَّهُ " بِفَتْحِ النُّون وَضَمّ الرَّاء خَفِيفَة , مِنْ حَرَقْت الشَّيْء أُحْرِقهُ حَرْقًا بَرَدَته وَحَكَكْت بَعْضه بِبَعْضٍ , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : حَرَقَ نَابَهُ يُحْرِقهُ وَيَحْرُقهُ أَيْ سَحَقَهُ حَتَّى سَمِعَ لَهُ صَرِيف ; فَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَة لَنُبَرِّدَنَّهُ بِالْمَبَارِدِ , وَيُقَال لِلْمِبْرَدِ الْمِحْرَق . وَالْقِرَاءَتَانِ الْأُولَيَانِ مَعْنَاهُمَا الْحَرْق بِالنَّارِ . وَقَدْ يُمْكِن جَمْع ذَلِكَ فِيهِ ; قَالَ السُّدِّيّ : ذَبَحَ الْعِجْل فَسَالَ مِنْهُ كَمَا يَسِيل مِنْ الْعِجْل إِذَا ذُبِحَ , ثُمَّ بَرَدَ عِظَامه بِالْمِبْرَد حَرَقَهُ وَفِي حَرْف اِبْن مَسْعُود " لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنَحْرُقَنَّهُ " وَاللَّحْم وَالدَّم إِذَا أُحْرِقَا صَارَا رَمَادًا فَيُمْكِن تَذْرِيَته فِي الْيَمّ فَأَمَّا الذَّهَب فَلَا يَصِير رَمَادًا وَقِيلَ عَرَفَ مُوسَى مَا صَيَّرَ بِهِ الذَّهَب رَمَادًا , وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ آيَاته .



وَمَعْنَى " لَنَنْسِفَنَّهُ " لَنُطَيِّرَنَّهُ . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء " لَنَنْسِفَنَّهُ " بِضَمِّ السِّين لُغَتَانِ , وَالنَّسْف نَفْض الشَّيْء لِيَذْهَب بِهِ الرِّيح وَهُوَ التَّذْرِيَة , وَالْمِنْسَف مَا يُنْسَف بِهِ الطَّعَام ; وَهُوَ شَيْء مُتَصَوِّب الصَّدْر أَعْلَاهُ مُرْتَفِع , وَالنُّسَافَة مَا يَسْقُط مِنْهُ ; يُقَال : اِعْزِلْ النُّسَافَة وَكُلْ مِنْ الْخَالِص . وَيُقَال : أَتَانَا فُلَان كَأَنَّ لِحْيَته مِنْسَف ; حَكَاهُ أَبُو نَصْر أَحْمَد بْن حَاتِم . وَالْمِنْسَفَة آلَة يُقْلِع بِهَا الْبِنَاء , وَنَسَفْت الْبِنَاء نَسْفًا قَلَعْته , وَنَسَفَ الْبَعِير الْكَلَأ يَنْسِفهُ بِالْكَسْرِ إِذَا اِقْتَلَعَهُ بِأَصْلِهِ , وَانْتَسَفْت الشَّيْء اِقْتَلَعْته ; عَنْ أَبِي زَيْد .
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًاسورة طه الآية رقم 98
لَا الْعِجْل ; أَيْ وَسِعَ كُلّ شَيْء عِلْمه ; يَفْعَل الْفِعْل عَنْ الْعِلْم ; وَنُصِبَ عَلَى التَّفْسِير .

وَقَرَأَ مُجَاهِد وَقَتَادَة " وَسِعَ كُلّ شَيْء عِلْمًا " .
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًاسورة طه الآية رقم 99
الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف . أَيْ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْك خَبَر مُوسَى " كَذَلِكَ نَقُصّ عَلَيْك " قَصَصًا كَذَلِكَ مِنْ أَخْبَار مَا قَدْ سَبَقَ ; لِيَكُونَ تَسْلِيَة لَك , وَلِيَدُلّ عَلَى صِدْقك .



يَعْنِي الْقُرْآن . وَسُمِّيَ الْقُرْآن ذِكْرًا ; لِمَا فِيهِ مِنْ الذِّكْر كَمَا سُمِّيَ الرَّسُول ذِكْرًا ; الذِّكْر كَانَ يَنْزِل عَلَيْهِ . وَقِيلَ : " أَتَيْنَاك مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا " أَيْ شَرَفًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك " [ الزُّخْرُف : 44 ] أَيْ شَرَف وَتَنْوِيه بِاسْمِك .
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًاسورة طه الآية رقم 100
أَيْ الْقُرْآن فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ , وَلَمْ يَعْمَل بِمَا فِيهِ


أَيْ إِثْمًا عَظِيمًا وَحِمْلًا ثَقِيلًا .
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاسورة طه الآية رقم 101
يُرِيد مُقِيمِينَ فِيهِ ; أَيْ فِي جَزَائِهِ وَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم .


يُرِيد بِئْسَ الْحِمْل حَمَلُوهُ يَوْم الْقِيَامَة . وَقَرَأَ دَاوُد بْن رَفِيع " فَإِنَّهُ يُحَمَّل " .
يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًاسورة طه الآية رقم 102
قِرَاءَة الْعَامَّة " يُنْفَخ " بِضَمِّ الْيَاء عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن أَبِي إِسْحَاق بِنُون مُسَمَّى الْفَاعِل . وَاسْتَدَلَّ أَبُو عَمْرو بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَنَحْشُر الْمُجْرِمِينَ " بِنُونٍ .

وَعَنْ اِبْن هُرْمُز " يَنْفُخ " بِفَتْحِ الْيَاء أَيْ يَنْفُخ إِسْرَافِيل . أَبُو عِيَاض : " فِي الصُّوَرِ " . الْبَاقُونَ " فِي الصُّورِ " وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي " الْأَنْعَام " مُسْتَوْفًى وَفِي كِتَاب " التَّذْكِرَة "



وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " وَيُحْشَر " بِضَمِّ الْيَاء " الْمُجْرِمُونَ " رَفْعًا بِخِلَافِ الْمُصْحَف . وَالْبَاقُونَ " وَنَحْشُر الْمُجْرِمِينَ " أَيْ الْمُشْرِكِينَ .


حَال مِنْ الْمُجْرِمِينَ , وَالزَّرَق خِلَاف الْكَحَل . وَالْعَرَب تَتَشَاءَم بِزُرْقِ الْعُيُون وَتَذُمّهُ ; أَيْ تُشَوَّه خِلْقَتهمْ بِزُرْقَةِ عُيُونهمْ وَسَوَاد وُجُوههمْ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَالْفَرَّاء : " زُرْقًا " أَيْ عُمْيًا . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : عِطَاشًا قَدْ اِزْرَقَّتْ أَعْيُنهمْ مِنْ شِدَّة الْعَطَش ; وَقَالَهُ الزَّجَّاج ; قَالَ : لِأَنَّ سَوَاد الْعَيْن يَتَغَيَّر وَيَزْرَقّ مِنْ الْعَطَش . وَقِيلَ : إِنَّهُ الطَّمَع الْكَاذِب إِذَا تَعَقَّبَتْهُ الْخَيْبَة , يُقَال : اِبْيَضَّتْ عَيْنِي لِطُولِ اِنْتِظَارِي لِكَذَا . وَقَوْل خَامِس : إِنَّ الْمُرَاد بِالزُّرْقَةِ شُخُوص الْبَصَر مِنْ شِدَّة الْخَوْف ; قَالَ الشَّاعِر : لَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنَاك يَا ابْن مُكَعْبَر كَمَا كُلّ ضَبِّيّ مِنْ اللُّؤْم أَزْرَق يُقَال : رَجُل أَزْرَق الْعَيْن , وَالْمَرْأَة زَرْقَاء بَيِّنَة الزَّرَق . وَالِاسْم الزُّرْقَة . وَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنه بِالْكَسْرِ وَازْرَقَّتْ عَيْنه اِزْرِقَاقًا , وَازْرَاقَّتْ عَيْنه اِزْرِيقَاقًا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قِيلَ لِابْنِ عَبَّاس فِي قَوْله : " وَنَحْشُر الْمُجْرِمِينَ يَوْمئِذٍ زُرْقًا " وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : " وَنَحْشُرهُمْ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى وُجُوههمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا " [ الْإِسْرَاء : 97 ] فَقَالَ : إِنَّ لِيَوْمِ الْقِيَامَة حَالَات ; فَحَالَة يَكُونُونَ فِيهِ زُرْقًا , وَحَالَة عُمْيًا .
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًاسورة طه الآية رقم 103
أَصْل الْخَفْت فِي اللُّغَة السُّكُون , ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ خَفَضَ صَوْته خَفَته . يَتَسَارُّونَ ; قَالَهُ مُجَاهِد ; أَيْ يَقُولُونَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ فِي الْمَوْقِف سِرًّا


أَيْ مَا لَبِثْتُمْ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا , وَقِيلَ فِي الْقُبُور


يُرِيد عَشْر لَيَالٍ . وَقِيلَ : أَرَادَ مَا بَيْن النَّفْخَتَيْنِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَة ; يُرْفَع الْعَذَاب فِي تِلْكَ الْمُدَّة عَنْ الْكُفَّار .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًاسورة طه الآية رقم 104
فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس - فَيَسْتَقْصِرُونَ تِلْكَ الْمُدَّة . أَوْ مُدَّة مَقَامهمْ فِي الدُّنْيَا لِشِدَّةِ مَا يَرَوْنَ مِنْ أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة ; وَيُخَيَّل إِلَى أَمْثَلهمْ أَيْ أَعْدَلهِمْ قَوْلًا وَأَعْقَلهمْ وَأَعْلَمهمْ عِنْد نَفْسه أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا يَعْنِي لُبْثهمْ فِي الدُّنْيَا ; عَنْ قَتَادَة ; فَالتَّقْدِير : إِلَّا مِثْل يَوْم . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ مِنْ شِدَّة هَوْل الْمَطْلَع نَسُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا رَأَوْهُ كَيَوْمٍ . وَقِيلَ : أَرَادَ بِيَوْمِ لُبْثهمْ مَا بَيْن النَّفْخَتَيْنِ , أَوْ لُبْثهمْ فِي الْقُبُور عَلَى مَا تَقَدَّمَ . " وَعَشْرًا " و " يَوْمًا " مَنْصُوبَانِ ب "لَبِثْتُمْ " .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًاسورة طه الآية رقم 105
أَيْ عَنْ حَال الْجِبَال يَوْم الْقِيَامَة .



جَاءَ هَذَا بِفَاءٍ وَكُلّ سُؤَال فِي الْقُرْآن " قُلْ " بِغَيْرِ فَاء إِلَّا هَذَا , لِأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ سَأَلُوك عَنْ الْجِبَال فَقُلْ , فَتَضَمَّنَ الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط وَقَدْ عَلِمَ اللَّه أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنْهَا , فَأَجَابَهُمْ قَبْل السُّؤَال , وَتِلْكَ أَسْئِلَة تَقَدَّمَتْ سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ الْجَوَاب عَقِب السُّؤَال ; فَلِذَلِكَ كَانَ بِغَيْرِ فَاء , وَهَذَا سُؤَال لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ بَعْد ; فَتَفَهَّمْهُ .


يُطَيِّرهَا . " نَسْفًا " قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَغَيْره : يَقْلَعهَا قَلْعًا مِنْ أُصُولهَا ثُمَّ يُصَيِّرهَا رَمْلًا يَسِيل سَيْلًا , ثُمَّ يُصَيِّرهَا كَالصُّوفِ الْمَنْفُوش تُطَيِّرهَا الرِّيَاح هَكَذَا وَهَكَذَا قَالَ : وَلَا يَكُون الْعِهْن مِنْ الصُّوف إِلَّا الْمَصْبُوغ , ثُمَّ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُور .
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًاسورة طه الآية رقم 106
أَيْ يَذَر مَوَاضِعهَا


الْقَاع الْأَرْض الْمَلْسَاء بِلَا نَبَات وَلَا بِنَاء ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْقَاع الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْض وَالْجَمْع أَقْوُع وَأَقْوَاع وَقِيعَان صَارَتْ الْوَاو يَاء لِكَسْرِ مَا قَبْلهَا .

وَقَالَ الْفَرَّاء : الْقَاع مُسْتَنْقَع الْمَاء وَالصَّفْصَف الْقَرْعَاء . الْكَلْبِيّ : هُوَ الَّذِي لَا نَبَات فِيهِ . وَقِيلَ : الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْض كَأَنَّهُ عَلَى صَفّ وَاحِد فِي اِسْتِوَائِهِ ; قَالَهُ مُجَاهِد . وَالْمَعْنَى وَاحِد فِي الْقَاع وَالصَّفْصَف ; فَالْقَاع الْمَوْضِع الْمُنْكَشِف , وَالصَّفْصَف الْمُسْتَوِي الْأَمْلَس . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَكَمْ دُون بَيْتك مِنْ صَفْصَف وَدَكْدَاك رَمْل وَأَعْقَادِهَا و " قَاعًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال وَالصَّفْصَف .
لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًاسورة طه الآية رقم 107
فِي مَوْضِع الصِّفَة .



قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْعِوَج التَّعَوُّج فِي الْفِجَاج . وَالْأَمْت النَّبَك . وَقَالَ أَبُو عَمْرو : الْأَمْت النِّبَاك وَهِيَ التِّلَال الصِّغَار وَاحِدهَا نَبَك ; أَيْ هِيَ أَرْض مُسْتَوِيَة لَا اِنْخِفَاض فِيهَا وَلَا اِرْتِفَاع . تَقُول : اِمْتَلَأَ فَمَا بِهِ أَمْت , وَمَلَأْت الْقِرْبَة مَلْئًا لَا أَمْت فِيهِ ; أَيْ لَا اِسْتِرْخَاء فِيهِ . وَالْأَمْت فِي اللُّغَة الْمَكَان الْمُرْتَفِع . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " عِوَجًا " مَيْلًا . قَالَ : وَالْأَمْت الْأَثَر مِثْل الشِّرَاك . عَنْهُ أَيْضًا " عِوَجًا , وَادِيًا " " وَلَا أَمْتًا " رَابِيَة . وَعَنْهُ أَيْضًا : الْعِوَج [ الِانْخِفَاض ] وَالْأَمْت الِارْتِفَاع . وَقَالَ قَتَادَة : " عِوَجًا " صَدْعًا .


أَيْ أَكَمَة . وَقَالَ يَمَان الْأَمْت الشُّقُوق فِي الْأَرْض . وَقِيلَ : الْأَمْت أَنْ يَغْلُظ مَكَان فِي الْفَضَاء أَوْ الْجَبَل وَيَدِقّ فِي مَكَان ; حَكَاهُ الصُّولِيّ . قُلْت : وَهَذِهِ الْآيَة تَدْخُل فِي بَاب الرُّقَى ; تُرْقَى بِهَا الثَّآلِيل وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى عِنْدنَا " بِالْبَرَارِيق " وَاحِدهَا " بروقة " ; تَطْلُع فِي الْجَسَد وَخَاصَّة فِي الْيَد : تَأْخُذ ثَلَاثَة أَعْوَاد مِنْ تِبْن الشَّعِير , يَكُون فِي طَرَف كُلّ عُود عُقْدَة , تَمُرّ كُلّ عُقْدَة عَلَى الثَّآلِيل وَتَقْرَأ الْآيَة مَرَّة , ثُمَّ تَدْفِن الْأَعْوَاد فِي مَكَان نَدِيّ ; تَعَفَّنَ وَتَعَفَّن الثَّآلِيل فَلَا يَبْقَى لَهَا أَثَر ; جَرَّبْت ذَلِكَ نَفْسِي وَفِي غَيْرِي فَوَجَدْته نَافِعًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًاسورة طه الآية رقم 108
يُرِيد إِسْرَافِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا نَفَخَ فِي الصُّور


أَيْ لَا مَعْدِل لَهُمْ عَنْهُ ; أَيْ عَنْ دُعَائِهِ لَا يَزِيغُونَ وَلَا يَنْحَرِفُونَ بَلْ يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَحِيدُونَ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا أَكْثَر الْعُلَمَاء . وَقِيلَ : " لَا عِوَج لَهُ " أَيْ لِدُعَائِهِ . وَقِيلَ : يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي اِتِّبَاعًا لَا عِوَج لَهُ ; فَالْمَصْدَر مُضْمَر ; وَالْمَعْنَى : يَتَّبِعُونَ صَوْت الدَّاعِي لِلْمَحْشَرِ ; نَظِيره : " وَاسْتَمِعْ يَوْم يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَان قَرِيب " [ ق : 41 ] الْآيَة . وَسَيَأْتِي .

أَيْ لَا مَعْدِل لَهُمْ عَنْهُ ; أَيْ عَنْ دُعَائِهِ لَا يَزِيغُونَ وَلَا يَنْحَرِفُونَ بَلْ يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَحِيدُونَ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا أَكْثَر الْعُلَمَاء . وَقِيلَ : " لَا عِوَج لَهُ " أَيْ لِدُعَائِهِ . وَقِيلَ : يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي اِتِّبَاعًا لَا عِوَج لَهُ ; فَالْمَصْدَر مُضْمَر ; وَالْمَعْنَى : يَتَّبِعُونَ صَوْت الدَّاعِي لِلْمَحْشَرِ ; نَظِيره : " وَاسْتَمِعْ يَوْم يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَان قَرِيب " [ ق : 41 ] الْآيَة . وَسَيَأْتِي .


أَيْ مِنْ أَجْله .



الْهَمْس الصَّوْت الْخَفِيّ ; قَالَهُ مُجَاهِد . عَنْ اِبْن عَبَّاس : الْحِسّ الْخَفِيّ . الْحَسَن وَابْن جُرَيْج : هُوَ صَوْت وَقْع الْأَقْدَام بَعْضهَا عَلَى بَعْض إِلَى الْمَحْشَر ; وَمِنْهُ قَوْل الرَّاجِز : وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا يَعْنِي صَوْت أَخْفَاف الْإِبِل فِي سَيْرهَا . وَيُقَال لِلْأَسَدِ الْهَمُوس ; لِأَنَّهُ يَهْمِس فِي الظُّلْمَة ; أَيْ يَطَأ وَطْئًا خَفِيًّا . قَالَ رُؤْبَة يَصِف نَفْسه بِالشِّدَّةِ لَيْث يَدُقّ الْأَسَد الْهَمُوسَا وَالْأَقْهَبَيْنِ الْفِيل وَالْجَامُوسَا وَهَمَسَ الطَّعَام ; أَيْ مَضَغَهُ وَفُوهُ مُنْضَمّ ; قَالَ الرَّاجِز : لَقَدْ رَأَيْت عَجَبًا مُذْ أَمْسَا عَجَائِزًا مِثْل السَّعَالِي خَمْسَا يَأْكُلْنَ مَا أَصْنَع هَمْسًا هَمْسًا وَقِيلَ : الْهَمْس تَحْرِيك الشَّفَة وَاللِّسَان . وَقَرَأَ أُبَيّ بْن كَعْب " فَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا هَمْسًا " . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب ; أَيْ لَا يُسْمَع لَهُمْ نُطْق وَلَا كَلَام وَلَا صَوْت أَقْدَام . وَبِنَاء " ه م س " أَصْله الْخَفَاء كَيْفَمَا تَصَرَّفَ ; وَمِنْهُ الْحُرُوف الْمَهْمُوسَة , وَهِيَ عَشَرَة يَجْمَعهَا قَوْلك : " حَثَّهُ شَخْصٌ فَسَكَتَ " وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْحَرْف مَهْمُوسًا لِأَنَّهُ ضَعُفَ الِاعْتِمَاد مِنْ مَوْضِعه حَتَّى جَرَى مَعَهُ النَّفَس .
يَوْمَئِذٍ لّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاسورة طه الآية رقم 109
" مَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الِاسْتِثْنَاء الْخَارِج مِنْ الْأَوَّل ; أَيْ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة أَحَدًا إِلَّا شَفَاعَة مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن .


أَيْ رَضِيَ قَوْله فِي الشَّفَاعَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى , أَيْ إِنَّمَا تَنْفَع الشَّفَاعَة لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن فِي أَنْ يَشْفَع لَهُ , وَكَانَ لَهُ قَوْل يُرْضَى . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه .
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًاسورة طه الآية رقم 110
أَيْ مِنْ أَمْر السَّاعَة .



مِنْ أَمْر الدُّنْيَا قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : يَعْلَم مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَاب أَوْ عِقَاب " وَمَا خَلْفهمْ " مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا . ثُمَّ قِيلَ : الْآيَة عَامَّة فِي جَمِيع الْخَلْق . وَقِيلَ الْمُرَاد الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي . وَالْحَمْد لِلَّهِ .


الْهَاء فِي " بِهِ " لِلَّهِ تَعَالَى ; أَيْ أَحَد لَا يُحِيط بِهِ عِلْمًا ; إِذْ الْإِحَاطَة مُشْعِرَة بِالْحَدِّ وَيَتَعَالَى اللَّه عَنْ التَّحْدِيد . وَقِيلَ : تَعُود عَلَى الْعِلْم ; أَيْ أَحَد لَا يُحِيط عِلْمًا بِمَا يَعْلَمهُ اللَّه . وَقَالَ الطَّبَرِيّ الضَّمِير فِي " أَيْدِيهمْ " و " خَلْفهمْ " و "يُحِيطُونَ " يَعُود عَلَى الْمَلَائِكَة ; أَعْلَمَ اللَّه مَنْ يَعْبُدهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَم مَا بَيْن أَيْدِيهَا وَمَا خَلْفهَا .
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًاسورة طه الآية رقم 111
أَيْ ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَغَيْره . وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ عَانٍ . قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : مَلِيك عَلَى عَرْش السَّمَاء مُهَيْمِن لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوه وَتَسْجُد وَقَالَ أَيْضًا وَعَنَا لَهُ وَجْهِي وَخَلْقِي كُلّه فِي السَّاجِدِينَ لِوَجْهِهِ مَشْكُورَا قَالَ الْجَوْهَرِيّ عَنَا يَعْنُو خَضَعَ وَذَلَّ وَأَعْنَاهُ غَيْره ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَعَنَتْ الْوُجُوه لِلْحَيِّ الْقَيُّوم " . وَيُقَال أَيْضًا : عَنَا فِيهِمْ فُلَان أَسِيرًا ; أَيْ قَامَ فِيهِمْ عَلَى إِسَاره وَاحْتَبَسَ . وَعَنَّاهُ غَيْره تَعْنِيَة حَبَسَهُ . وَالْعَانِي الْأَسِير . وَقَوْم عُنَاة وَنِسْوَة عَوَان . وَعَنَتْ أُمُور نَزَلَتْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " عَنَتْ " ذَلَّتْ . وَقَالَ مُجَاهِد : خَشَعَتْ . الْمَاوَرْدِيّ : وَالْفَرْق بَيْن الذُّلّ وَالْخُشُوع - وَإِنْ تَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا - أَنَّ الذُّلّ أَنْ يَكُون ذَلِيل النَّفْس , وَالْخُشُوع أَنْ يَتَذَلَّل لِذِي طَاعَة . وَقَالَ الْكَلْبِيّ " عَنَتْ " أَيْ عَلِمَتْ . عَطِيَّة الْعَوْفِيّ : اِسْتَسْلَمَتْ . وَقَالَ طَلْق بْن حَبِيب : إِنَّهُ وَضْع الْجَبْهَة وَالْأَنْف عَلَى الْأَرْض فِي السُّجُود . النَّحَّاس : " وَعَنَتْ الْوُجُوه " فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّ هَذَا فِي الْآخِرَة . وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَعَنَتْ الْوُجُوه لِلْحَيِّ الْقَيُّوم " قَالَ : الرُّكُوع وَالسُّجُود ; وَمَعْنَى " عَنَتْ " فِي اللُّغَة الْقَهْر وَالْغَلَبَة ; وَمِنْهُ فُتِحَتْ الْبِلَاد عَنْوَة أَيْ غَلَبَة ; قَالَ الشَّاعِر فَمَا أَخَذُوهَا عَنْوَة عَنْ مَوَدَّة وَلَكِنَّ ضَرْبَ الْمَشْرَفِيّ اِسْتَقَالَهَا وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْعَنَاء بِمَعْنَى التَّعَب ; وَكَنَّى عَنْ النَّاس بِالْوُجُوهِ ; لِأَنَّ آثَار الذُّلّ إِنَّمَا تَتَبَيَّن فِي الْوَجْه .


وَفِي الْقَيُّوم ثَلَاث تَأْوِيلَات ; أَحَدهمَا : أَنَّهُ الْقَائِم بِتَدْبِيرِ الْخَلْق . الثَّانِي : أَنَّهُ الْقَائِم عَلَى كُلّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ . الثَّالِث : أَنَّهُ الدَّائِم الَّذِي لَا يَزُول وَلَا يَبِيد . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " هَذَا



أَيْ خَسِرَ مَنْ حَمَلَ شِرْكًا .
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًاسورة طه الآية رقم 112
لِأَنَّ الْعَمَل لَا يُقْبَل مِنْ غَيْر إِيمَان . و " مِنْ " فِي قَوْله " مِنْ الصَّالِحَات " لِلتَّبْعِيضِ ; أَيْ شَيْئًا مِنْ الصَّالِحَات . وَقِيلَ لِلْجِنْسِ .


قَرَأَ اِبْن كَثِير وَمُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن " يَخَفْ " بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ : " وَمَنْ يَعْمَل " . الْبَاقُونَ " يَخَاف " رَفْعًا عَلَى الْخَبَر ; أَيْ فَهُوَ لَا يَخَاف ; أَوْ فَإِنَّهُ لَا يَخَاف .



أَيْ نَقْصًا لِثَوَابِ طَاعَته , وَلَا زِيَادَة عَلَيْهِ فِي سَيِّئَاته .


بِالِانْتِقَاصِ مِنْ حَقّه . وَالْهَضْم النَّقْص وَالْكَسْر ; يُقَال : هَضَمْت ذَلِكَ مِنْ حَقِّي أَيْ حَطَطْته وَتَرَكْته . وَهَذَا يَهْضِم الطَّعَام أَيْ يُنْقِص ثِقَله . وَامْرَأَة هَضِيم الْكَشْح ضَامِرَة الْبَطْن . الْمَاوَرْدِيّ : وَالْفَرْق بَيْن الظُّلْم وَالْهَضْم أَنَّ الظُّلْم الْمَنْع مِنْ الْحَقّ كُلّه , وَالْهَضْم الْمَنْع مِنْ بَعْضه , وَالْهَضْم ظُلْم وَإِنْ اِفْتَرَقَا مِنْ وَجْه ; قَالَ الْمُتَوَكِّل اللَّيْثِيّ : إِنَّ الْأَذِلَّة وَاللِّئَام لَمَعْشَر مَوْلَاهُمْ الْمُتَهَضَّم الْمَظْلُوم قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَرَجُل هَضِيم وَمُهْتَضَم أَيْ مَظْلُوم . وَتَهَضَّمَهُ أَيْ ظَلَمَهُ وَاهْتَضَمَهُ إِذَا ظَلَمَهُ وَكَسَرَ عَلَيْهِ حَقّه .
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًاسورة طه الآية رقم 113
أَيْ كَمَا بَيَّنَّا لَك فِي هَذِهِ السُّورَة مِنْ الْبَيَان فَكَذَلِكَ جَعَلْنَاهُ " قُرْآنًا عَرَبِيًّا " أَيْ بِلُغَةِ الْعَرَب .


أَيْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ التَّخْوِيف وَالتَّهْدِيد وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب .


أَيْ يَخَافُونَ اللَّه فَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيه , وَيَحْذَرُونَ عِقَابه .



أَيْ مَوْعِظَة . وَقَالَ قَتَادَة : حَذَرًا وَوَرَعًا . وَقِيلَ : شَرَفًا ; فَالذِّكْر هَاهُنَا بِمَعْنَى الشَّرَف ; كَقَوْلِهِ : " وَإِنَّهُ لَذِكْر لَك وَلِقَوْمِك " [ الزُّخْرُف 44 ] . وَقِيلَ : أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا الْعَذَاب الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ . وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْ نُحْدِث " بِالنُّونِ ; وَرُوِيَ عَنْهُ رَفْع الثَّاء وَجَزْمهَا .
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًاسورة طه الآية رقم 114
لَمَّا عَرَفَ الْعِبَاد عَظِيم نِعَمه , وَإِنْزَال الْقُرْآن نَزَّهَ نَفْسه عَنْ الْأَوْلَاد وَالْأَنْدَاد فَقَالَ : " فَتَعَالَى اللَّه " أَيْ جَلَّ اللَّه الْمَلِك الْحَقّ ; أَيْ ذُو الْحَقّ .


عَلَّمَ نَبِيّه كَيْفَ يَتَلَقَّى الْقُرْآن . قَالَ اِبْن عَبَّاس كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُبَادِر جِبْرِيل فَيَقْرَأ قَبْل أَنْ يَفْرُغ جِبْرِيل مِنْ الْوَحْي حِرْصًا عَلَى الْحِفْظ , وَشَفَقَة عَلَى الْقُرْآن مَخَافَة النِّسْيَان , فَنَهَاهُ اللَّه عَنْ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ " وَلَا تَعْجَل بِالْقُرْآنِ " وَهَذَا كَقَوْلِهِ : " لَا تُحَرِّك بِهِ لِسَانك لِتَعْجَلَ بِهِ " [ الْقِيَامَة : 16 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَرَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ : لَا تَتْلُهُ قَبْل أَنْ تَتَبَيَّنهُ . وَقِيلَ : " وَلَا تَعْجَل " أَيْ لَا تَسَلْ إِنْزَاله " مِنْ قَبْل أَنْ يُقْضَى " أَيْ يَأْتِيك " وَحْيه " . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُلْقِهِ إِلَى النَّاس قَبْل أَنْ يَأْتِيك بَيَان تَأْوِيله .


قَالَ الْحَسَن : نَزَلَتْ فِي رَجُل لَطَمَ وَجْه اِمْرَأَته ; فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلُب الْقِصَاص , فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا الْقِصَاص فَنَزَلَ " الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء " [ النِّسَاء 34 ] وَلِهَذَا قَالَ : " وَقُلْ رَبّ زِدْنِي عِلْمًا " أَيْ فَهْمًا ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام حَكَمَ بِالْقِصَاصِ وَأَبَى اللَّه ذَلِكَ . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره " مِنْ قَبْل أَنْ نَقْضِي " بِالنُّونِ وَكَسْر الضَّاد " وَحْيه " بِالنَّصْبِ .
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًاسورة طه الآية رقم 115
قَرَأَ الْأَعْمَش بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ " فَنَسِي " بِإِسْكَانِ الْيَاء وَلَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا : تَرَكَ ; أَيْ تَرَكَ الْأَمْر وَالْعَهْد ; وَهَذَا قَوْل مُجَاهِد وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ وَمِنْهُ " نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ " . [ التَّوْبَة 67 ] . و [ وَثَانِيهمَا ] قَالَ اِبْن عَبَّاس " نَسِيَ " هُنَا مِنْ السَّهْو وَالنِّسْيَان , وَإِنَّمَا أُخِذَ الْإِنْسَان مِنْهُ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ . قَالَ اِبْن زَيْد نَسِيَ مَا عَهِدَ اللَّه إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ لَهُ عَزْم مَا أَطَاعَ عَدُوّهُ إِبْلِيس . وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَحْتَمِل أَنْ يَكُون آدَم عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِكَ الْوَقْت مَأْخُوذًا بِالنِّسْيَانِ , وَإِنْ كَانَ النِّسْيَان عَنَّا الْيَوْم مَرْفُوعًا . وَمَعْنَى " مِنْ قَبْل " أَيْ مِنْ قَبْل أَنْ يَأْكُل مِنْ الشَّجَرَة ; لِأَنَّهُ نَهَى عَنْهَا . وَالْمُرَاد تَسْلِيَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ طَاعَة بَنِي آدَم الشَّيْطَان أَمْر قَدِيم ; أَيْ إِنْ نَقَضَ هَؤُلَاءِ الْعَهْد فَإِنَّ آدَم أَيْضًا عَهِدْنَا إِلَيْهِ فَنَسِيَ ; حَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ وَكَذَلِكَ الطَّبَرِيّ . أَيْ وَإِنْ يُعْرِض يَا مُحَمَّد هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة عَنْ آيَاتِي , وَيُخَالِفُوا رُسُلِي , وَيُطِيعُوا إِبْلِيس فَقِدَمًا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُوهُمْ آدَم . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا التَّأْوِيل ضَعِيف , وَذَلِكَ كَوْن آدَم مِثَالًا لِلْكُفَّارِ الْجَاحِدِينَ بِاَللَّهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَآدَم إِنَّمَا عَصَى بِتَأْوِيلٍ , فَفِي هَذَا غَضَاضَة عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَإِنَّمَا الظَّاهِر فِي الْآيَة إِمَّا أَنْ يَكُون اِبْتِدَاء قَصَص لَا تَعَلُّق لَهُ بِمَا قَبْله , وَإِمَّا أَنْ يُجْعَل تَعَلُّقه أَنَّهُ لَمَّا عَهِدَ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَعْجَل بِالْقُرْآنِ , مَثَّلَ لَهُ بِنَبِيٍّ قَبْله عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ فَعُوقِبَ ; لِيَكُونَ أَشَدّ فِي التَّحْذِير , وَأَبْلَغ فِي الْعَهْد إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَالْعَهْد هَاهُنَا فِي مَعْنَى الْوَصِيَّة ; " وَنَسِيَ " مَعْنَاهُ تَرَكَ ; وَنِسْيَان الذُّهُول لَا يُمْكِن هُنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّق بِالنَّاسِي عِقَاب . وَالْعَزْم الْمُضِيّ عَلَى الْمُعْتَقَد فِي أَيّ شَيْء كَانَ ; وَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ كَانَ يَعْتَقِد أَلَّا يَأْكُل مِنْ الشَّجَرَة لَكِنْ لَمَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِ إِبْلِيس لَمْ يَعْزِم عَلَى مُعْتَقَده . وَالشَّيْء الَّذِي عُهِدَ إِلَى آدَم هُوَ أَلَّا يَأْكُل مِنْ الشَّجَرَة , وَأَعْلَمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيس عَدُوّ لَهُ .


وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله : " وَلَمْ نَجِد لَهُ عَزْمًا " فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : لَمْ نَجِد لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْل الشَّجَرَة , وَمُوَاظَبَة عَلَى اِلْتِزَام الْأَمْر . قَالَ النَّحَّاس وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَة ; يُقَال : لِفُلَانٍ عَزْم أَيْ صَبْر وَثَبَات عَلَى التَّحَفُّظ مِنْ الْمَعَاصِي حَتَّى يَسْلَم مِنْهَا , وَمِنْهُ " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْم مِنْ الرُّسُل " [ الْأَحْقَاف : 35 ] . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ : حِفْظًا لِمَا أُمِرَ بِهِ ; أَيْ لَمْ يَتَحَفَّظ مِمَّا نَهَيْته حَتَّى نَسِيَ وَذَهَبَ عَنْ عِلْم ذَلِكَ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَال ; وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيس قَالَ لَهُ : إِنْ أَكَلْتهَا خُلِّدْت فِي الْجَنَّة يَعْنِي عَيْن تِلْكَ الشَّجَرَة , فَلَمْ يُطِعْهُ فَدَعَاهُ إِلَى نَظِير تِلْكَ الشَّجَرَة مِمَّا دَخَلَ فِي عُمُوم النَّهْي وَكَانَ يَجِب أَنْ يَسْتَدِلّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَل , وَظَنَّ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُل فِي النَّهْي فَأَكَلَهَا تَأْوِيلًا , وَلَا يَكُون نَاسِيًا لِلشَّيْءِ مَنْ يَعْلَم أَنَّهُ مَعْصِيَة . وَقَالَ اِبْن زَيْد : " عَزْمًا " مُحَافَظَة عَلَى أَمْر اللَّه . وَقَالَ الضَّحَّاك : عَزِيمَة أَمْر . اِبْن كَيْسَان : إِصْرَارًا وَلَا إِضْمَارًا لِلْعَوْدِ إِلَى الذَّنْب . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَوَّل أَقْرَب إِلَى تَأْوِيل الْكَلَام ; وَلِهَذَا قَالَ قَوْم : آدَم لَمْ يَكُنْ مِنْ أُولِي الْعَزْم مِنْ الرُّسُل ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " وَلَمْ نَجِد لَهُ عَزْمًا " . وَقَالَ الْمُعْظَم : كَانَ الرُّسُل أُولُو الْعَزْم , وَفِي الْخَبَر " مَا مِنْ نَبِيّ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ مَا خَلَا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا " فَلَوْ خَرَجَ آدَم بِسَبَبِ خَطِيئَته مِنْ جُمْلَة أُولِي الْعَزْم لَخَرَجَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء سِوَى يَحْيَى . وَقَدْ قَالَ أَبُو أُمَامَة : إِنَّ أَحْلَام بَنِي آدَم جُمِعَتْ مُنْذُ خَلَقَ اللَّه الْخَلْق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَوُضِعَتْ فِي كِفَّة مِيزَان , وَوُضِعَ حِلْم آدَم فِي كِفَّة أُخْرَى لَرَجَحَهُمْ ; وَقَدْ قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : " وَلَمْ نَجِد لَهُ عَزْمًا "
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىسورة طه الآية رقم 116
تَقَدَّمَ فِي ( الْبَقَرَة ) مُسْتَوفَى .
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىسورة طه الآية رقم 117
نَهْي ; وَمَجَازه : لَا تَقْبَلَا مِنْهُ فَيَكُون ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِكُمَا " مِنْ الْجَنَّة " " فَتَشْقَى " يَعْنِي أَنْتَ وَزَوْجك لِأَنَّهُمَا فِي اِسْتِوَاء الْعِلَّة وَاحِد ; وَلَمْ يَقُلْ : فَتَشْقَيَا لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوف , وَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الْمُخَاطَب , وَهُوَ الْمَقْصُود . وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْكَادّ عَلَيْهَا وَالْكَاسِب لَهَا كَانَ بِالشَّقَاءِ أَخَصّ . وَقِيلَ : الْإِخْرَاج وَاقِع عَلَيْهِمَا وَالشَّقَاوَة عَلَى آدَم وَحْده , وَهُوَ شَقَاوَة الْبَدَن ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ " إِنَّ لَك أَلَّا تَجُوع فِيهَا وَلَا تَعْرَى " أَيْ فِي الْجَنَّة " وَأَنَّك لَا تَظْمَأ فِيهَا وَلَا تَضْحَى " فَأَعْلَمَهُ أَنَّ لَهُ فِي الْجَنَّة هَذَا كُلّه : الْكِسْوَة وَالطَّعَام وَالشَّرَاب وَالْمَسْكَن ; وَأَنَّك إِنْ ضَيَّعْت الْوَصِيَّة , وَأَطَعْت الْعَدُوّ أَخْرَجَكُمَا مِنْ الْجَنَّة فَشَقِيت تَعَبًا وَنَصَبًا , أَيْ جُعْت وَعَرِيت وَظَمِئْت وَأَصَابَتْك الشَّمْس ; لِأَنَّك تُرَدّ إِلَى الْأَرْض إِذَا أُخْرِجْت مِنْ الْجَنَّة . وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِذِكْرِ الشَّقَاء وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَانِ : يُعَلِّمنَا أَنَّ نَفَقَة الزَّوْجَة عَلَى الزَّوْج ; فَمِنْ يَوْمئِذٍ جَرَتْ نَفَقَة النِّسَاء عَلَى الْأَزْوَاج , فَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَة حَوَّاء عَلَى آدَم كَذَلِكَ نَفَقَات بَنَاتهَا عَلَى بَنِي آدَم بِحَقِّ الزَّوْجِيَّة . وَأَعْلَمَنَا فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ النَّفَقَة الَّتِي تَجِب لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَة : الطَّعَام وَالشَّرَاب وَالْكِسْوَة وَالْمَسْكَن ; فَإِذَا أَعْطَاهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَة فَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَتهَا ; فَإِنْ تَفَضَّلَ بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ مَأْجُور , فَأَمَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَة فَلَا بُدّ لَهَا مِنْهَا ; لِأَنَّ بِهَا إِقَامَة الْمُهْجَة . قَالَ الْحَسَن الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " فَتَشْقَى " شَقَاء الدُّنْيَا , لَا يُرَى اِبْن آدَم إِلَّا نَاصِبًا . وَقَالَ الْفَرَّاء هُوَ أَنْ يَأْكُل مِنْ كَدّ يَدَيْهِ . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : أُهْبِطَ إِلَى آدَم ثَوْر أَحْمَر فَكَانَ يَحْرُث عَلَيْهِ , وَيَمْسَح الْعَرَق عَنْ جَبِينه , فَهُوَ شَقَاؤُهُ الَّذِي قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَقِيلَ : لَمَّا أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّة كَانَ مِنْ أَوَّل شَقَائِهِ أَنَّ جِبْرِيل أَنْزَلَ عَلَيْهِ حَبَّات مِنْ الْجَنَّة ; فَقَالَ يَا آدَم اِزْرَعْ هَذَا , فَحَرَثَ وَزَرَعَ , ثُمَّ حَصَدَ ثُمَّ دَرَسَ ثُمَّ نَقَّى ثُمَّ طَحَنَ ثُمَّ عَجَنَ ثُمَّ خَبَزَ , ثُمَّ جَلَسَ لِيَأْكُل بَعْد التَّعَب ; فَتَدَحْرَجَ رَغِيفه مِنْ يَده حَتَّى صَارَ أَسْفَل الْجَبَل , وَجَرَى وَرَاءَهُ آدَم حَتَّى تَعِبَ وَقَدْ عَرِقَ جَبِينه , قَالَ يَا آدَم فَكَذَلِكَ رِزْقك بِالتَّعَبِ وَالشَّقَاء , وَرِزْق وَلَدك مِنْ بَعْدك مَا كُنْت فِي الدُّنْيَا .
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَىسورة طه الآية رقم 118
" إِنَّ لَك أَلَّا تَجُوع فِيهَا " أَيْ فِي الْجَنَّة " وَلَا تَعْرَى "
وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَىسورة طه الآية رقم 119
" وَأَنَّك لَا تَظْمَأ فِيهَا " أَيْ لَا تَعْطَش . وَالظَّمَأ الْعَطَش . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَالْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا فِي رِوَايَة أَبُو بَكْر عَنْهُ " وَأَنَّك " بِفَتْحِ الْهَمْزَة عَطْفًا عَلَى " أَلَّا تَجُوع " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِع , وَالْمَعْنَى : وَلَك أَنَّك لَا تَظْمَأ فِيهَا . الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف , أَوْ عَلَى الْعَطْف عَلَى " إِنَّ لَك " .



أَيْ تَبْرُز لِلشَّمْسِ فَتَجِد حَرّهَا . إِذْ لَيْسَ فِي الْجَنَّة شَمْس , إِنَّمَا هُوَ ظِلّ مَمْدُود , كَمَا بَيْن طُلُوع الْفَجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : نَهَار الْجَنَّة هَكَذَا : وَأَشَارَ إِلَى سَاعَة الْمُصَلِّينَ صَلَاة الْفَجْر . قَالَ أَبُو زَيْد : ضَحَا الطَّرِيق يَضْحُو ضُحُوًّا إِذَا بَدَا لَك وَظَهَرَ . وَضَحَيْت وَضَحِيت " بِالْكَسْرِ " ضَحًا عَرِقْت . وَضَحِيت أَيْضًا لِلشَّمْسِ ضَحَاء مَمْدُود بَرَزْت وَضَحَيْت " بِالْفَتْحِ " مِثْله , وَالْمُسْتَقْبَل أَضْحَى فِي اللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا ; قَالَ عُمَر بْن أَبِي رَبِيعَة رَأَتْ رَجُلًا أَيْمَا إِذَا الشَّمْس عَارَضَتْ فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصَر فِي الْحَدِيث أَنَّ اِبْن عُمَر رَأَى رَجُلًا مُحْرِمًا قَدْ اِسْتَظَلَّ , فَقَالَ : أَضِح لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ . هَكَذَا يَرْوِيه الْمُحَدِّثُونَ بِفَتْحِ الْأَلِف وَكَسْر الْحَاء مِنْ أَضْحَيْت . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : إِنَّمَا هُوَ اِضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ ; بِكَسْرِ الْأَلِف وَفَتْح الْحَاء مِنْ ضَحِيت أَضْحَى ; لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبُرُوزِ لِلشَّمْسِ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأَنَّك لَا تَظْمَأ فِيهَا وَلَا تَضْحَى " وَأَنْشَدَ : ضَحِيت لَهُ كَيْ أَسْتَظِلّ بِظِلِّهِ إِذَا الظِّلّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَة قَالِصَا
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَىسورة طه الآية رقم 120
وَالْوَسْوَسَة : الصَّوْت الْخَفِيّ . وَالْوَسْوَسَة : حَدِيث النَّفْس ; يُقَال : وَسْوَسَتْ إِلَيْهِ نَفْسه وَسْوَسَة وَوِسْوَاسًا ( بِكَسْرِ الْوَاو ) . وَالْوَسْوَاس ( بِالْفَتْحِ ) : اسْم , مِثْل الزَّلْزَال . وَيُقَال لِهَمْسِ الصَّائِد وَالْكِلَاب وَأَصْوَات الْحَلْي : وَسْوَاس . قَالَ الْأَعْشَى : تَسْمَع لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا اِنْصَرَفَتْ كَمَا اِسْتَعَانَ بِرِيح عِشْرِقٌ زَجِلُ وَالْوَسْوَاس : اِسْم الشَّيْطَان ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مِنْ شَرّ الْوَسْوَاس الْخَنَّاس " [ النَّاس : 4 ] .


يَعْنِي الشَّيْطَان


وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الْمُشَافَهَة , وَأَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّة فِي جَوْف الْحَيَّة . عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " بَيَانه , وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ تَعْيِين الشَّجَرَة , وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5