الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍسورة الزخرف الآية رقم 31
" وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ " أَيْ هَلَّا نَزَلَ " هَذَا الْقُرْآن عَلَى رَجُل " وَقُرِئَ " عَلَى رَجْل " بِسُكُونِ الْجِيم .

" مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم " أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان " [ الرَّحْمَن : 22 ] أَيْ مِنْ أَحَدهمَا .

أَوْ عَلَى أَحَد رَجُلَيْنِ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ . الْقَرْيَتَانِ : مَكَّة وَالطَّائِف .

وَالرَّجُلَانِ : الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن مَخْزُوم عَمّ أَبِي جَهْل . وَاَلَّذِي مِنْ الطَّائِف أَبُو مَسْعُود عُرْوَة بْن مَسْعُود الثَّقَفِيّ ; قَالَهُ قَتَادَة .

وَقِيلَ : عُمَيْر بْن عَبْد يَالَيْلَ الثَّقَفِيّ مِنْ الطَّائِف , وَعُتْبَة بْن رَبِيعَة مِنْ مَكَّة ; وَهُوَ قَوْل مُجَاهِد . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ عَظِيم الطَّائِف حَبِيب بْن عَمْرو الثَّقَفِيّ . وَقَالَ السُّدِّيّ : كِنَانَة بْن عَبْد بْن عَمْرو
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَسورة الزخرف الآية رقم 32
رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة - وَكَانَ يُسَمَّى رَيْحَانَة قُرَيْش كَانَ يَقُول : لَوْ كَانَ مَا يَقُولهُ مُحَمَّد حَقًّا لَنَزَلَ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَبِي مَسْعُود ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة رَبّك " يَعْنِي النُّبُوَّة فَيَضَعُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا .

" نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنهمْ مَعِيشَتهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا " أَيْ أَفْقَرْنَا قَوْمًا وَأَغْنَيْنَا قَوْمًا ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَمْر الدُّنْيَا إِلَيْهِمْ فَكَيْف يُفَوَّض أَمْر النُّبُوَّة إِلَيْهِمْ . قَالَ قَتَادَة : تَلْقَاهُ ضَعِيف الْقُوَّة قَلِيل الْحِيلَة عَيِيّ اللِّسَان وَهُوَ مَبْسُوط لَهُ , وَتَلْقَاهُ شَدِيد الْحِيلَة بَسِيط اللِّسَان وَهُوَ مُقَتَّر عَلَيْهِ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن فِي رِوَايَة عَنْهُ " مَعَايِشهمْ " . وَقِيلَ : أَيْ نَحْنُ أَعْطَيْنَا عَظِيم الْقَرْيَتَيْنِ مَا أَعْطَيْنَا لَا لِكَرَامَتِهِمَا عَلَيَّ وَأَنَا قَادِر عَلَى نَزْع النِّعْمَة عَنْهُمَا ; فَأَيّ فَضْل وَقَدْر لَهُمَا .

أَيْ فَاضَلْنَا بَيْنهمْ فَمِنْ فَاضِل وَمَفْضُول وَرَئِيس وَمَرْءُوس ; قَالَ مُقَاتِل . وَقِيلَ : بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقّ ; فَبَعْضهمْ مَالِك وَبَعْضهمْ مَمْلُوك . وَقِيلَ : بِالْغِنَى وَالْفَقْر ; فَبَعْضهمْ غَنِيّ وَبَعْضهمْ فَقِير . وَقِيلَ : بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر .

قَالَ السُّدِّيّ وَابْن زَيْد : خَوَلًا وَخُدَّامًا , يُسَخِّر الْأَغْنِيَاء الْفُقَرَاء فَيَكُون بِهِ بَعْضهمْ سَبَبًا لِمَعَاشِ بَعْض . وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك : يَعْنِي لِيَمْلِك بَعْضهمْ بَعْضًا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ السُّخْرِيَة الَّتِي بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاء ; أَيْ لِيَسْتَهْزِئ الْغَنِيّ بِالْفَقِيرِ . قَالَ الْأَخْفَش : سَخِرْت بِهِ وَسَخِرْت مِنْهُ , وَضَحِكْت مِنْهُ وَضَحِكْت بِهِ , وَهَزِئْت مِنْهُ وَبِهِ ; كُلّ يُقَال , وَالِاسْم السُّخْرِيَة ( بِالضَّمِّ ) . وَالسُّخْرِيّ وَالسِّخْرِيّ ( بِالضَّمِّ وَالْكَسْر ) . وَكُلّ النَّاس ضَمُّوا " سُخْرِيًّا " إِلَّا اِبْن مُحَيْصِن وَمُجَاهِد فَإِنَّهُمَا قَرَآ " سِخْرِيًّا "

أَيْ أَفْضَل مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنْ الدُّنْيَا . ثُمَّ قِيلَ : الرَّحْمَة النُّبُوَّة , وَقِيلَ الْجَنَّة . وَقِيلَ : تَمَام الْفَرَائِض خَيْر مِنْ كَثِير النَّوَافِل . وَقِيلَ : مَا يُتَفَضَّل بِهِ عَلَيْهِمْ خَيْر مِمَّا يُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالهمْ .
وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَسورة الزخرف الآية رقم 33
فِيهِ خَمْس مَسَائِل : الْأُولَى : قَالَ الْعُلَمَاء : ذَكَرَ حَقَارَة الدُّنْيَا وَقِلَّة خَطَرهَا , وَأَنَّهَا عِنْده مِنْ الْهَوَان بِحَيْثُ كَانَ يَجْعَل بُيُوت الْكَفَرَة وَدَرَجهَا ذَهَبًا وَفِضَّة لَوْلَا غَلَبَة حُبّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوب ; فَيُحْمَل ذَلِكَ عَلَى الْكُفْر .

قَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى لَوْلَا أَنْ يَكْفُر النَّاس جَمِيعًا بِسَبَبِ مَيْلهمْ إِلَى الدُّنْيَا وَتَرْكهمْ الْآخِرَة لَأَعْطَيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا وَصَفْنَاهُ ; لِهَوَانِ الدُّنْيَا عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَعَلَى هَذَا أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمْ .

وَقَالَ اِبْن زَيْد : " وَلَوْلَا أَنْ يَكُون النَّاس أُمَّة وَاحِدَة " فِي طَلَب الدُّنْيَا وَاخْتِيَارهَا عَلَى الْآخِرَة " لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُر بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّة " .

وَقَالَ الْكِسَائِيّ : الْمَعْنَى لَوْلَا أَنْ يَكُون فِي الْكُفَّار غَنِيّ وَفَقِير وَفِي الْمُسْلِمِينَ مِثْل ذَلِكَ لَأَعْطَيْنَا الْكُفَّار مِنْ الدُّنْيَا هَذَا لِهَوَانِهَا . الثَّانِيَة : قَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " سَقْفًا " بِفَتْحِ السِّين وَإِسْكَان الْقَاف عَلَى الْوَاحِد وَمَعْنَاهُ الْجَمْع ; اِعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْف مِنْ فَوْقهمْ " [ النَّحْل : 26 ] . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ السِّين وَالْقَاف عَلَى الْجَمْع ; مِثْل رَهْن وَرُهُن . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَلَا ثَالِث لَهُمَا . وَقِيلَ : هُوَ جَمْع سَقِيف ; مِثْل كَثِيب وَكُثُب , وَرَغِيف وَرُغُف ; قَالَهُ الْفَرَّاء . وَقِيلَ : هُوَ جَمْع سُقُوف ; فَيَصِير جَمْع الْجَمْع : سَقْف وَسُقُوف , نَحْو فَلْس وَفُلُوس . ثُمَّ جَعَلُوا فُعُولًا كَأَنَّهُ اِسْم وَاحِد فَجَمَعُوهُ عَلَى فُعُل . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد " سَقْفًا " بِإِسْكَانِ الْقَاف . وَقِيلَ : اللَّام فِي " لِبُيُوتِهِمْ " بِمَعْنَى عَلَى ; أَيْ عَلَى بُيُوتهمْ . وَقِيلَ : بَدَل ; كَمَا تَقُول : فَعَلْت هَذَا لِزَيْدٍ لِكَرَامَتِهِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا السُّدُس " [ النِّسَاء : 11 ] كَذَلِكَ قَالَ هُنَا : " لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُر بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ " . الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : " وَمَعَارِج " يَعْنِي الدَّرَج ; قَالَ اِبْن عَبَّاس وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور . وَاحِدهَا مِعْرَاج , وَالْمِعْرَاج السُّلَّم ; وَمِنْهُ لَيْلَة الْمِعْرَاج . وَالْجَمْع مَعَارِج وَمَعَارِيج ; مِثْل مَفَاتِح وَمَفَاتِيح ; لُغَتَانِ . " وَمَعَارِيج " قَرَأَ أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف ; وَهِيَ الْمَرَاقِي وَالسَّلَالِيم . قَالَ الْأَخْفَش : إِنْ شِئْت جَعَلْت الْوَاحِد مِعْرَج وَمَعْرَج ; مِثْل مِرْقَاة وَمَرْقَاة .

" عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ " أَيْ عَلَى الْمَعَارِج يَرْتَقُونَ وَيَصْعَدُونَ ; يُقَال : ظَهَرْت عَلَى الْبَيْت أَيْ عَلَوْت سَطْحه . وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ عَلَا شَيْئًا وَارْتَفَعَ عَلَيْهِ ظَهَرَ لِلنَّاظِرِينَ . وَيُقَال : ظَهَرْت عَلَى الشَّيْء أَيْ عَلِمْته . وَظَهَرْت عَلَى الْعَدُوّ أَيْ غَلَبْته .

وَأَنْشَدَ نَابِغَة بَنِي جَعْدَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله : عَلَوْنَا السَّمَاء عِزَّة وَمَهَابَة وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْق ذَلِكَ مَظْهَرَا أَيْ مِصْعَدًا ; فَغَضِبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : [ إِلَى أَيْنَ ] ؟ قَالَ إِلَى الْجَنَّة ; قَالَ : [ أَجَلْ إِنْ شَاءَ اللَّه ] . قَالَ الْحَسَن : وَاَللَّه لَقَدْ مَالَتْ الدُّنْيَا بِأَكْثَر أَهْلهَا وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ ! فَكَيْف لَوْ فَعَلَ ؟ ! الرَّابِعَة : اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ السَّقْف لَا حَقَّ فِيهِ لِرَبِّ الْعُلُوّ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ السُّقُوف لِلْبُيُوتِ كَمَا جَعَلَ الْأَبْوَاب لَهَا . وَهَذَا مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْت عِبَارَة عَنْ قَاعَة وَجِدَار وَسَقْف وَبَاب , فَمَنْ لَهُ الْبَيْت فَلَهُ أَرْكَانه . وَلَا خِلَاف أَنَّ الْعُلُوّ لَهُ إِلَى السَّمَاء . وَاخْتَلَفُوا فِي السُّفْل ; فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ لَهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ لَهُ فِي بَاطِن الْأَرْض شَيْء . وَفِي مَذْهَبنَا الْقَوْلَانِ .

وَقَدْ بَيَّنَ حَدِيث الْإِسْرَائِيلِيّ الصَّحِيح فِيمَا تَقَدَّمَ : أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُل دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّة مِنْ ذَهَب , فَجَاءَ بِهَا إِلَى الْبَائِع فَقَالَ : إِنَّمَا اِشْتَرَيْت الدَّار دُون الْجَرَّة , وَقَالَ الْبَائِع : إِنَّمَا بِعْت الدَّار بِمَا فِيهَا ; وَكُلّهمْ تَدَافَعَهَا فَقَضَى بَيْنهمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَوِّج أَحَدهمَا وَلَده مِنْ بِنْت الْآخَر وَيَكُون الْمَال لَهُمَا . وَالصَّحِيح أَنَّ الْعُلُوّ وَالسُّفْل لَهُ إِلَّا أَنْ يَخْرُج عَنْهُمَا بِالْبَيْعِ ; فَإِذَا بَاعَ أَحَدهمَا أَحَد الْمَوْضِعَيْنِ فَلَهُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِع بِهِ وَبَاقِيه لِلْمُبْتَاعِ مِنْهُ . الْخَامِسَة : مِنْ أَحْكَام الْعُلُوّ وَالسُّفْل . إِذَا كَانَ الْعُلُوّ وَالسُّفْل بَيْن رَجُلَيْنِ فَيَعْتَلّ السُّفْل أَوْ يُرِيد صَاحِبه هَدْمه ; فَذَكَرَ سَحْنُون عَنْ أَشْهَب أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَرَادَ صَاحِب السُّفْل أَنْ يَهْدِم , أَوْ أَرَادَ صَاحِب الْعُلُوّ أَنْ يَبْنِي عُلُوّهُ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْل أَنْ يَهْدِم إِلَّا مِنْ ضَرُورَة , وَيَكُون هَدْمه لَهُ أَرْفَق لِصَاحِبِ الْعُلُوّ ; لِئَلَّا يَنْهَدِم بِانْهِدَامِهِ الْعُلُوّ , وَلَيْسَ لِرَبِّ الْعُلُوّ أَنْ يَبْنِي عَلَى عُلُوّهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْل ذَلِكَ إِلَّا الشَّيْء الْخَفِيف الَّذِي لَا يَضُرّ بِصَاحِبِ السُّفْل . وَلَوْ اِنْكَسَرَتْ خَشَبَة مِنْ سَقْف الْعُلُوّ لَأَدْخَلَ مَكَانهَا خَشَبَة مَا لَمْ تَكُنْ أَثْقَل مِنْهَا وَيَخَاف ضَرَرهَا عَلَى صَاحِب السُّفْل . قَالَ أَشْهَب : وَبَاب الدَّار عَلَى صَاحِب السُّفْل . قَالَ : وَلَوْ اِنْهَدَمَ السُّفْل أُجْبِرَ صَاحِبه عَلَى بِنَائِهِ , وَلَيْسَ عَلَى صَاحِب الْعُلُوّ أَنْ يَبْنِي السُّفْل ; فَإِنْ أَبَى صَاحِب السُّفْل مِنْ الْبِنَاء قِيلَ لَهُ بِعْ مِمَّنْ يَبْنِي . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك فِي السُّفْل لِرَجُلٍ وَالْعُلُوّ لِآخَر فَاعْتَلَّ السُّفْل , فَإِنَّ صَلَاحه عَلَى رَبّ السُّفْل وَعَلَيْهِ تَعْلِيق الْعُلُوّ حَتَّى يَصْلُح سُفْله ; لِأَنَّ عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَحْمِلهُ عَلَى بُنْيَان أَوْ عَلَى تَعْلِيق , وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى الْعُلُوّ فَتَعْلِيق الْعُلُوّ الثَّانِي عَلَى صَاحِب الْأَوْسَط . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ تَعْلِيق الْعُلُوّ الثَّانِي عَلَى رَبّ الْعُلُوّ حَتَّى يَبْنِي الْأَسْفَل . وَحَدِيث النُّعْمَان بْن بَشِير عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ مَثَل الْقَائِم عَلَى حُدُود اللَّه وَالْوَاقِع فِيهَا كَمَثَلِ قَوْم اِسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَة فَأَصَابَ بَعْضهمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضهمْ أَسْفَلهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلهَا إِذَا اِسْتَقَوْا مِنْ الْمَاء مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقهمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقنَا فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ] - أَصْل فِي هَذَا الْبَاب . وَهُوَ حُجَّة لِمَالِك وَأَشْهَب . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ صَاحِب السُّفْل لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِث عَلَى صَاحِب الْعُلُوّ مَا يَضُرّ بِهِ , وَأَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ ضَرَرًا لَزِمَهُ إِصْلَاحه دُون صَاحِب الْعُلُوّ , وَأَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلُوّ مَنْعه مِنْ الضَّرَر ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : [ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ] وَلَا يَجُوز الْأَخْذ إِلَّا عَلَى يَد الظَّالِم أَوْ مَنْ هُوَ مَمْنُوع مِنْ إِحْدَاث مَا لَا يَجُوز لَهُ فِي السِّنَة .

وَفِيهِ دَلِيل عَلَى اِسْتِحْقَاق الْعُقُوبَة بِتَرْكِ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْفَال " . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْقُرْعَة وَاسْتِعْمَالهَا , وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " فَتَأَمَّلْ كُلًّا فِي مَوْضِعه تَجِدهُ مُبَيَّنًا , وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَسورة الزخرف الآية رقم 34
قَوْله تَعَالَى " وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا " أَيْ وَلَجَعَلْنَا لِبُيُوتِهِمْ . وَقِيلَ : " لِبُيُوتِهِمْ " بَدَل اِشْتِمَال مِنْ قَوْله : " لِمَنْ يَكْفُر بِالرَّحْمَنِ " . " أَبْوَابًا " أَيْ مِنْ فِضَّة .

" وَسُرَرًا " كَذَلِكَ ; وَهُوَ جَمْع السَّرِير . وَقِيلَ : جَمْع الْأَسِرَّة , وَالْأَسِرَّة جَمْع السَّرِير ; فَيَكُون جَمْع الْجَمْع .

الِاتِّكَاء وَالتَّوَكُّؤ : التَّحَامُل عَلَى الشَّيْء ; وَمِنْهُ , " أَتَوَكَّأ عَلَيْهَا " . وَرَجُل تُكَأَة ; مِثَال هُمَزَة ; كَثِير الِاتِّكَاء . وَالتُّكَأَة أَيْضًا : مَا يُتَّكَأ عَلَيْهِ . وَاتَّكَأَ عَلَى الشَّيْء فَهُوَ مُتَّكِئ ; وَالْمَوْضِع مُتَّكَأ . وَطَعَنَهُ حَتَّى اِتَّكَأَهُ ( عَلَى أَفْعَلَهُ ) أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى هَيْئَة الْمُتَّكِئ . وَتَوَكَّأْت عَلَى الْعَصَا . وَأَصْل التَّاء فِي جَمِيع ذَلِكَ وَاو , فَفَعَلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِاِتَّزَنَ وَاتَّعَدَ .
وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَسورة الزخرف الآية رقم 35
الزُّخْرُف هُنَا الذَّهَب ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . نَظِيره : " أَوْ يَكُون لَك بَيْت مِنْ زُخْرُف " [ الْإِسْرَاء : 93 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ مَا يَتَّخِذهُ النَّاس فِي مَنَازِلهمْ مِنْ الْأَمْتِعَة وَالْأَثَاث . وَقَالَ الْحَسَن : النُّقُوش ; وَأَصْله الزِّينَة . يُقَال : زَخْرَفْت الدَّار ; أَيْ زَيَّنْتهَا . وَتَزَخْرَفَ فُلَان ; أَيْ تَزَيَّنَ . وَانْتَصَبَ " زُخْرُفًا " عَلَى مَعْنَى وَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ زُخْرُفًا . وَقِيلَ : بِنَزْعِ الْخَافِض ; وَالْمَعْنَى فَجَعَلْنَا لَهُمْ سُقُفًا وَأَبْوَابًا وَسُرَرًا مِنْ فِضَّة وَمِنْ ذَهَب ; فَلَمَّا حَذَفَ " مِنْ " قَالَ : " وَزُخْرُفًا " فَنَصَبَ .

قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَهِشَام عَنْ اِبْن عَامِر " وَإِنْ كُلّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا " بِالتَّشْدِيدِ . الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ ; وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَاء كَسْر اللَّام مِنْ " لَمَّا " ; ف " مَا " عِنْده بِمَنْزِلَةِ الَّذِي , وَالْعَائِد عَلَيْهَا مَحْذُوف ; وَالتَّقْدِير : وَإِنْ كُلّ ذَلِكَ لِلَّذِي هُوَ مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا , وَحَذَفَ الضَّمِير هَاهُنَا كَحَذْفِهِ فِي قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا " [ الْبَقَرَة : 26 ] و " تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَن " [ الْأَنْعَام : 154 ] . أَبُو الْفَتْح : يَنْبَغِي أَنْ يَكُون " كُلّ " عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة مَنْصُوبَة ; لِأَنَّ " إِنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة , وَهِيَ إِذَا خُفِّفَتْ وَبَطَلَ عَمَلهَا لَزِمَتْهَا اللَّام فِي آخِر الْكَلَام لِلْفَرْقِ بَيْنهَا وَبَيْن " إِنْ " النَّافِيَة الَّتِي بِمَعْنَى مَا ; نَحْو إِنَّ زَيْد لَقَائِم , وَلَا لَامَ هُنَا سِوَى الْجَارَّة .

يُرِيد الْجَنَّة لِمَنْ اِتَّقَى وَخَافَ . وَقَالَ كَعْب : إِنِّي لَأَجِد فِي بَعْض كُتُب اللَّه الْمُنَزَّلَة : لَوْلَا أَنْ يَحْزَن عَبْدِي الْمُؤْمِن لَكَلَلْت رَأْس عَبْدِي الْكَافِر بِالْإِكْلِيلِ , وَلَا يَتَصَدَّع وَلَا يَنْبِض مِنْهُ عِرْق بِوَجَعٍ . وَفِي صَحِيح التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ الدُّنْيَا سِجْن الْمُؤْمِن وَجَنَّة الْكَافِر ] .


وَعَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِل عِنْد اللَّه جَنَاح بَعُوضَة مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَة مَاء ] . وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَأَنْشَدُوا : فَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا جَزَاء لِمُحْسِنٍ إِذًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعَاش لِظَالِمِ لَقَدْ جَاعَ فِيهَا الْأَنْبِيَاء كَرَامَة وَقَدْ شَبِعَتْ فِيهَا بُطُون الْبَهَائِم

وَقَالَ آخَر : تَمَتَّعْ مِنْ الْأَيَّام إِنْ كُنْت حَازِمًا فَإِنَّك فِيهَا بَيْن نَاهٍ وَآمِر إِذَا أَبْقَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْء دِينه فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ فَلَا تَزِن الدُّنْيَا جَنَاح بَعُوضَة وَلَا وَزْن رَقّ مِنْ جَنَاح لِطَائِرِ فَلَمْ يَرْضَ بِالدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُحْسِنٍ وَلَا رَضِيَ الدُّنْيَا عِقَابًا لِكَافِرِ
وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌسورة الزخرف الآية رقم 36
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة " وَمَنْ يَعْشُ " بِفَتْحِ الشِّين , وَمَعْنَاهُ يَعْمَى ; يُقَال مِنْهُ عَشِيَ يَعْشَى عَشًا إِذَا عَمِيَ . وَرَجُل أَعْشَى وَامْرَأَة عَشْوَاء إِذَا كَانَ لَا يُبْصِر ; وَمِنْهُ قَوْل الْأَعْشَى : رَأَتْ رَجُلًا غَائِب الْوَافِدَيْ نِ مُخْتَلِف الْخَلْق أَعْشَى ضَرِيرَا وَقَوْله : أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أَعْشَى أَضَرَّ بِهِ رَيْب الْمَنُون وَدَهْر مُفْنِد خَبِل الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ ; مِنْ عَشَا يَعْشُو إِذَا لَحِقَهُ مَا يَلْحَق الْأَعْشَى . وَقَالَ الْخَلِيل : الْعُشُوّ هُوَ النَّظَر بِبَصَرٍ ضَعِيف ; وَأَنْشَدَ : مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْء نَاره تَجِد خَيْر نَار عِنْدهَا خَيْر مُوقِد


وَقَالَ آخَر : لَنِعْمَ الْفَتَى يَعْشُو إِلَى ضَوْء نَاره إِذَا الرِّيح هَبَّتْ وَالْمَكَان جَدِيب

الْجَوْهَرِيّ : وَالْعَشَا ( مَقْصُور ) مَصْدَر الْأَعْشَى وَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِر بِاللَّيْلِ وَيُبْصِر بِالنَّهَارِ . وَالْمَرْأَة عَشْوَاء , وَامْرَأَتَانِ عَشْوَاوَانِ . وَأَعْشَاهُ اللَّه فَعَشِيَ ( بِالْكَسْرِ ) يَعْشَى عَشًى , وَهُمَا يَعْشَيَانِ , وَلَمْ يَقُولُوا يَعْشُوَانِ ; لِأَنَّ الْوَاو لَمَّا صَارَتْ فِي الْوَاحِد يَاء لِكِسْرَةِ مَا قَبْلهَا تُرِكَتْ فِي التَّثْنِيَة عَلَى حَالهَا . وَتَعَاشَى إِذَا أَرَى مِنْ نَفْسه أَنَّهُ أَعْشَى . وَالنِّسْبَة إِلَى أَعْشَى أَعْشَوِيّ . وَإِلَى الْعَشِيَّة عَشَوِىّ . وَالْعَشْوَاء : النَّاقَة الَّتِي لَا تُبْصِر أَمَامهَا فَهِيَ تَخْبِط بِيَدَيْهَا كُلّ شَيْء . وَرَكِبَ فُلَان الْعَشْوَاء إِذَا خَبَطَ أَمْره عَلَى غَيْر بَصِيرَة . وَفُلَان خَابِط خَبْط عَشْوَاء .

وَهَذِهِ الْآيَة تَتَّصِل بِقَوْلِهِ أَوَّل السُّورَة : " أَفَنَضْرِب عَنْكُمْ الذِّكْر صَفْحًا " [ الزُّخْرُف : 5 ] أَيْ نُوَاصِل لَكُمْ الذِّكْر ; فَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذَلِكَ الذِّكْر بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِلَى أَقَاوِيل الْمُضِلِّينَ وَأَبَاطِيلهمْ


" نُقَيِّض لَهُ شَيْطَانًا " أَيْ نُسَبِّب لَهُ شَيْطَانًا جَزَاء لَهُ عَلَى كُفْره " فَهُوَ لَهُ قَرِين " قِيلَ فِي الدُّنْيَا , يَمْنَعهُ يَمْنَعهُ مِنْ الْحَلَال , وَيَبْعَثهُ عَلَى الْحَرَام , وَيَنْهَاهُ عَنْ الطَّاعَة , وَيَأْمُرهُ بِالْمَعْصِيَةِ ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ فِي الْآخِرَة إِذَا قَامَ مِنْ قَبْره ; قَالَهُ سَعِيد الْجُرَيْرِيّ . وَفِي الْخَبَر : أَنَّ الْكَافِر إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْره يُشْفَع بِشَيْطَانٍ لَا يَزَال مَعَهُ حَتَّى يَدْخُلَا النَّار . وَأَنَّ الْمُؤْمِن يُشْفَع بِمَلَكٍ حَتَّى يَقْضِي اللَّه بَيْن خَلْقه ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ .

وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : و الصَّحِيح فَهُوَ لَهُ قَرِين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم وَالْأَزْهَرِيّ : عَشَوْت إِلَى كَذَا أَيْ قَصَدْته . وَعَشَوْت عَنْ كَذَا أَيْ أَعْرَضْت عَنْهُ , فَتُفَرِّق بَيْن " إِلَى " و " عَنْ " ; مِثْل : مِلْت إِلَيْهِ وَمِلْت عَنْهُ . وَكَذَا قَالَ قَتَادَة : يَعْشُ , يُعْرِض ; وَهُوَ قَوْل الْفَرَّاء . النَّحَّاس : وَهُوَ غَيْر مَعْرُوف فِي اللُّغَة . وَقَالَ الْقُرَظِيّ : يُوَلِّي ظَهْره ; وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْأَخْفَش : تُظْلِم عَيْنه . وَأَنْكَرَ الْعُتْبِيّ عَشَوْت بِمَعْنَى أَعْرَضْت ; قَالَ : وَإِنَّمَا الصَّوَاب تَعَاشَيْت . وَالْقَوْل قَوْل أَبِي الْهَيْثَم وَالْأَزْهَرِيّ . وَكَذَلِكَ قَالَ جَمِيع أَهْل الْمَعْرِفَة .

وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَعِصْمَة عَنْ عَاصِم وَعَنْ الْأَعْمَش " يُقَيِّض " ( بِالْيَاءِ ) لِذِكْرِ " الرَّحْمَن " أَوَّلًا ; أَيْ يُقَيِّض لَهُ الرَّحْمَن شَيْطَانًا . الْبَاقُونَ بِالنُّونِ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس " يُقَيِّض لَهُ شَيْطَان فَهُوَ لَهُ قَرِين " أَيْ مُلَازِم وَمُصَاحِب . قِيلَ : " فَهُوَ " كِنَايَة عَنْ الشَّيْطَان ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ عَنْ الْإِعْرَاض عَنْ الْقُرْآن ; أَيْ هُوَ قَرِين لِلشَّيْطَانِ .
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَسورة الزخرف الآية رقم 37
" وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيل " أَيْ وَإِنَّ الشَّيَاطِين لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيل الْهُدَى ; وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْع لِأَنَّ " مَنْ " فِي قَوْله : " وَمَنْ يَعْشُ " فِي مَعْنَى الْجَمْع .


" وَيَحْسَبُونَ " أَيْ وَيَحْسَب الْكُفَّار " أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ " وَقِيلَ : وَيَحْسَب الْكُفَّار إِنَّ الشَّيَاطِين مُهْتَدُونَ فَيُطِيعُونَهُمْ .
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُسورة الزخرف الآية رقم 38
" حَتَّى إِذَا جَاءَنَا " عَلَى التَّوْحِيد قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص يَعْنِي الْكَافِر يَوْم الْقِيَامَة . الْبَاقُونَ " جَاءَانَا " عَلَى التَّثْنِيَة , يَعْنِي الْكَافِر وَقَرِينه وَقَدْ جَعَلَا فِي سَلْسَلَة وَاحِدَة ; فَيَقُول الْكَافِر : " يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ " أَيْ مَشْرِق الشِّتَاء وَمَشْرِق الصَّيْف , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " رَبّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبّ الْمَغْرِبَيْنِ " [ الرَّحْمَن : 17 ] وَنَحْوه قَوْل مُقَاتِل . وَقِرَاءَة التَّوْحِيد وَإِنْ كَانَ ظَاهِرهَا الْإِفْرَاد فَالْمَعْنَى لَهُمَا جَمِيعًا ; لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ بِمَا بَعْده ; كَمَا قَالَ : وَعَيْن لَهَا حَدْرَة بَدْرَة شُقَّتْ مَآقِيهمَا مِنْ أُخَرْ

قَالَ مُقَاتِل : يَتَمَنَّى الْكَافِر أَنَّ بَيْنهمَا بُعْد الْمَشْرِق أَطْوَل يَوْم فِي السَّنَة إِلَى مَشْرِق أَقْصَر يَوْم فِي السَّنَة , وَلِذَلِكَ قَالَ : " بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ " . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَرَادَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب فَغَلَّبَ اِسْم أَحَدهمَا , كَمَا يُقَال : الْقَمَرَانِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَر , وَالْعُمَرَانِ لِأَبِي بَكْر وَعُمَر , وَالْبَصْرَتَانِ لِلْكُوفَةِ وَالْبَصْرَة , وَالْعَصْرَانِ لِلْغَدَاةِ وَالْعَصْر . وَقَالَ الشَّاعِر : أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُوم الطَّوَالِع

وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة لِجَرِيرٍ : مَا كَانَ يَرْضَى رَسُول اللَّه فِعْلهمْ وَالْعُمَرَانِ أَبُو بَكْر وَلَا عُمَر

وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : قَدْنِيَ مِنْ نَصْر الْخُبَيْبَيْنِ قِدِي يُرِيد عَبْد اللَّه وَمُصْعَبًا اِبْنَيْ الزُّبَيْر , وَإِنَّمَا أَبُو خُبَيْب عَبْد اللَّه .

أَيْ فَبِئْسَ الصَّاحِب أَنْتَ ; لِأَنَّهُ يُورِدهُ إِلَى النَّار . قَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : إِذَا بُعِثَ الْكَافِر زُوِّجَ بِقَرِينِهِ مِنْ الشَّيَاطِين فَلَا يُفَارِقهُ حَتَّى يَصِير بِهِ إِلَى النَّار .
وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَسورة الزخرف الآية رقم 39
" إِذْ " بَدَل مِنْ الْيَوْم ; أَيْ يَقُول اللَّه لِلْكَافِرِ : لَنْ يَنْفَعكُمْ الْيَوْم إِذْ أَشْرَكْتُمْ فِي الدُّنْيَا هَذَا الْكَلَام ; وَهُوَ قَوْل الْكَافِر : " يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ " أَيْ لَا تَنْفَع النَّدَامَة الْيَوْم .

" إِنَّكُمْ " بِالْكَسْرِ " فِي الْعَذَاب مُشْتَرِكُونَ " وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن عَامِر بِاخْتِلَافِ عَنْهُ . الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ . وَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع تَقْدِيره : وَلَنْ يَنْفَعكُمْ الْيَوْم اِشْتِرَاككُمْ فِي الْعَذَاب ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِد نَصِيبه الْأَوْفَر مِنْهُ . أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ مَنَعَ أَهْل النَّار التَّأَسِّي كَمَا يَتَأَسَّى أَهْل الْمَصَائِب فِي الدُّنْيَا , وَذَلِكَ أَنَّ التَّأَسِّي يَسْتَرْوِحهُ أَهْل الدُّنْيَا فَيَقُول أَحَدهمْ : لِي فِي الْبَلَاء وَالْمُصِيبَة أُسْوَة ; فَيُسَكِّن ذَلِكَ مِنْ حُزْنه ; كَمَا قَالَتْ الْخَنْسَاء : فَلَوْلَا كَثْرَة الْبَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إِخْوَانهمْ لَقَتَلْت نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْل أَخِي وَلَكِنْ أُعَزِّي النَّفْس عَنْهُ بِالتَّأَسِّي فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَة لَمْ يَنْفَعهُمْ التَّأَسِّي , شَيْئًا لِشُغْلِهِمْ بِالْعَذَابِ .

وَقَالَ مُقَاتِل : لَنْ يَنْفَعكُمْ الِاعْتِذَار وَالنَّدَم الْيَوْم ; لِأَنَّ قُرَنَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي الْعَذَاب مُشْتَرِكُونَ كَمَا اِشْتَرَكْتُمْ فِي الْكُفْر .
أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍسورة الزخرف الآية رقم 40
قَوْله تَعَالَى " أَفَأَنْت تُسْمِع الصُّمّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْي " يَا مُحَمَّد " وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَال مُبِين " أَيْ لَيْسَ لَك ذَلِكَ فَلَا يَضِيق صَدْرك إِنْ كَفَرُوا ; فَفِيهِ تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهِ رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَغَيْرهمْ , وَأَنَّ الْهُدَى وَالرُّشْد وَالْخِذْلَان فِي الْقَلْب خَلْق اللَّه تَعَالَى , يُضِلّ مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء .
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَسورة الزخرف الآية رقم 41
قَوْله تَعَالَى " فَإِمَّا نَذْهَبَن بِك " يُرِيد أُخْرِجَنك مِنْ مَكَّة مِنْ أَذَى قُرَيْش .

" فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ .
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَسورة الزخرف الآية رقم 42
" أَوْ نُرِيَنَّك الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ " وَهُوَ الِانْتِقَام مِنْهُمْ فِي حَيَاتك .

" فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ " قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَدْ أَرَاهُ اللَّه ذَلِكَ يَوْم بَدْر ; وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ .

وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : هِيَ فِي أَهْل الْإِسْلَام ; يُرِيد مَا كَانَ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفِتَن . و " نَذْهَبَن بِك " عَلَى هَذَا نَتَوَفَّيَنَّكَ .

وَقَدْ كَانَ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِقْمَة شَدِيدَة فَأَكْرَمَ اللَّه نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ بِهِ فَلَمْ يَرَهُ فِي أُمَّته إِلَّا الَّتِي تَقَرّ بِهِ عَيْنه وَأَبْقَى النِّقْمَة بَعْده , وَلَيْسَ مِنْ نَبِيّ إِلَّا وَقَدْ أُرِيَ النِّقْمَة فِي أُمَّته . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ مَا لَقِيَتْ أُمَّته مِنْ بَعْده , فَمَا زَالَ مُنْقَبِضًا , مَا اِنْبَسَطَ ضَاحِكًا حَتَّى لَقِيَ , اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .

وَعَنْ اِبْن مَسْعُود : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ إِذَا أَرَادَ اللَّه بِأُمَّةٍ خَيْرًا قَبَضَ نَبِيّهَا قَبْلهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا . وَإِذَا أَرَادَ اللَّه بِأُمَّةٍ عَذَابًا عَذَّبَهَا وَنَبِيّهَا حَيّ لِتَقَرّ عَيْنه لَمَّا كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْره ] .
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍسورة الزخرف الآية رقم 43
قَوْله تَعَالَى " فَاسْتَمْسِكْ بِاَلَّذِي أُوحِيَ إِلَيْك " يُرِيد الْقُرْآن , يُرِيد الْقُرْآن , وَإِنْ كَذَّبَ بِهِ مَنْ كَذَّبَ ; ف " إِنَّك عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " يُوصِلك إِلَى اللَّه وَرِضَاهُ وَثَوَابه .
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَسورة الزخرف الآية رقم 44
يَعْنِي الْقُرْآن شَرَف لَك وَلِقَوْمِك مِنْ قُرَيْش , إِذْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَعَلَى رَجُل مِنْهُمْ ; نَظِيره : " لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْركُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : 10 ] أَيْ شَرَفكُمْ . فَالْقُرْآن نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْش وَإِيَّاهُمْ خَاطَبَ ; فَاحْتَاجَ أَهْل اللُّغَات كُلّهَا إِلَى لِسَانهمْ كُلّ مَنْ آمَنَ بِذَلِكَ فَصَارُوا عِيَالًا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ أَهْل كُلّ لُغَة اِحْتَاجُوا إِلَى أَنْ يَأْخُذُوهُ مِنْ لُغَتهمْ حَتَّى يَقِفُوا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي عُنِيَ بِهِ مِنْ الْأَمْر . وَالنَّهْي وَجَمِيع مَا فِيهِ مِنْ الْأَنْبَاء , فَشُرِّفُوا بِذَلِكَ عَلَى سَائِر أَهْل اللُّغَات وَلِذَلِكَ سُمِّيَ عَرَبِيًّا .

وَقِيلَ : بَيَان لَك وَلِأُمَّتِك فِيمَا بِكُمْ إِلَيْهِ حَاجَة . وَقِيلَ : تَذْكِرَة تَذْكُرُونَ بِهِ أَمْر الدِّين وَتَعْمَلُونَ بِهِ . وَقِيلَ : " وَإِنَّهُ لَذِكْر لَك وَلِقَوْمِك " يَعْنِي الْخِلَافَة فَإِنَّهَا فِي قُرَيْش لَا تَكُون فِي غَيْرهمْ ; قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ النَّاس تَبَع لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْن مُسْلِمهمْ تَبَع لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرهمْ تَبَع لِكَافِرِهِمْ ] .

وَقَالَ مَالِك : هُوَ قَوْل الرَّجُل حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ , حَكَاهُ اِبْن أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَالِك بْن أَنَس فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ وَغَيْرهمَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلَمْ أَجِد فِي الْإِسْلَام هَذِهِ الْمَرْتَبَة لِأَحَدٍ إِلَّا بِبَغْدَاد فَإِنَّ بَنِي التَّمِيمِيّ بِهَا يَقُولُونَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي , إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِذَلِكَ شَرُفَتْ أَقْدَارهمْ , وَعَظَّمَ النَّاس شَأْنهمْ , وَتُهُمِّمَتْ الْخِلَافَة بِهِمْ . وَرَأَيْت بِمَدِينَةِ السَّلَام اِبْنَيْ أَبِي مُحَمَّد رِزْق اللَّه بْن عَبْد الْوَهَّاب أَبِي الْفَرَج بْن عَبْد الْعَزِيز بْن الْحَارِث بْن الْأَسَد بْن اللَّيْث بْن سُلَيْمَان بْن أَسْوَد بْن سُفْيَان بْن يَزِيد بْن أُكَيْنَة بْن عَبْد اللَّه التَّمِيمِيّ وَكَانَا يَقُولَانِ : سَمِعْنَا أَبَانَا رِزْق اللَّه يَقُول سَمِعْت أَبِي يَقُول سَمِعْت أَبِي يَقُول سَمِعْت أَبِي يَقُول سَمِعْت أَبِي يَقُول سَمِعْت أَبِي يَقُول سَمِعْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب يَقُول وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَنَّان الْمَنَّان فَقَالَ : الْحَنَّان الَّذِي يُقْبِل عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ , وَالْمَنَّان الَّذِي يَبْدَأ بِالنَّوَالِ قَبْل السُّؤَال . وَالْقَائِل سَمِعْت عَلِيًّا : أُكَيْنَة بْن عَبْد اللَّه جَدّهمْ الْأَعْلَى . وَالْأَقْوَى أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " وَإِنَّهُ لَذِكْر لَك وَلِقَوْمِك " يَعْنِي الْقُرْآن ; فَعَلَيْهِ اِنْبَنَى الْكَلَام وَإِلَيْهِ يَرْجِع الْمَصِير , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : " وَلِقَوْمِك " فِيهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : مَنْ اِتَّبَعَك مِنْ أُمَّتك ; قَالَهُ قَتَادَة وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ عَنْ الْحَسَن . الثَّانِي : لِقَوْمِك مِنْ قُرَيْش ; فَيُقَال مِمَّنْ هَذَا ؟ فَيُقَال مِنْ الْعَرَب , فَيُقَال مِنْ أَيّ الْعَرَب ؟ فَيُقَال مِنْ قُرَيْش ; قَالَ مُجَاهِد . قُلْت : وَالصَّحِيح أَنَّهُ شَرَف لِمَنْ عَمِلَ بِهِ , كَانَ مِنْ قُرَيْش أَوْ مِنْ غَيْرهمْ .

رَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَقْبَلَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَرِيَّة أَوْ غُزَاة فَدَعَا فَاطِمَة فَقَالَ : [ يَا فَاطِمَة اِشْتَرِي نَفْسك مِنْ اللَّه فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّه شَيْئًا ] وَقَالَ مِثْل ذَلِكَ لِنِسْوَتِهِ , وَقَالَ مِثْل ذَلِكَ لِعِتْرَتِهِ , ثُمَّ قَالَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ مَا بَنُو هَاشِم بِأَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ , وَلَا قُرَيْش بِأَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ , وَلَا الْأَنْصَار بِأَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ , وَلَا الْمَوَالِي بِأَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ . إِنَّمَا أَنْتُمْ مِنْ رَجُل وَامْرَأَة وَأَنْتُمْ كَجِمَامِ الصَّاع لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَد فَضْل إِلَّا بِالتَّقْوَى ] .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَيَنْتَهِيَن أَقْوَام يَفْتَخِرُونَ بِفَحْمٍ مِنْ فَحْم جَهَنَّم أَوْ يَكُونُونَ شَرًّا عِنْد اللَّه مِنْ الْجُعْلَانِ الَّتِي تَدْفَع النَّتِن بِأَنْفِهَا , كُلّكُمْ بَنُو آدَم وَآدَم مِنْ تُرَاب , إِنَّ اللَّه أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّة الْجَاهِلِيَّة وَفَخْرهَا بِالْآبَاءِ النَّاس مُؤْمِن تَقِيّ وَفَاجِر شَقِيّ ] . خَرَّجَهُمَا الطَّبَرِيّ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي الْحُجُرَات إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

أَيْ عَنْ الشُّكْر عَلَيْهِ ; قَالَ مُقَاتِل وَالْفَرَّاء . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أَيْ تُسْأَلُونَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَك عَلَى مَا أَتَاك . وَقِيلَ : تُسْأَلُونَ عَمَّا عَمِلْتُمْ فِيهِ ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب .
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَسورة الزخرف الآية رقم 45
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن زَيْد : لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى - وَهُوَ مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس - بَعَثَ اللَّه لَهُ آدَم وَمَنْ وُلِدَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ , وَجِبْرِيل مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَذَّنَ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاة , ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّد تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِهِمْ ; فَلَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ لَهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ سَلْ يَا مُحَمَّد مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُون الرَّحْمَن آلِهَة يُعْبَدُونَ ] . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَا أَسْأَل قَدْ اِكْتَفَيْت ] . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانُوا سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمْ السَّلَام ; فَلَمْ يَسْأَلهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَم بِاَللَّهِ مِنْهُمْ . فِي غَيْر رِوَايَة اِبْن عَبَّاس : فَصَلُّوا خَلْف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَة صُفُوف , الْمُرْسَلُونَ ثَلَاثَة صُفُوف وَالنَّبِيُّونَ أَرْبَعَة ; وَكَانَ يَلِي ظَهْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيم خَلِيل اللَّه , وَعَلَى يَمِينه إِسْمَاعِيل وَعَلَى يَسَاره إِسْحَاق ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ سَائِر الْمُرْسَلِينَ فَأَمَّهُمْ رَكْعَتَيْنِ ; فَلَمَّا اِنْفَتَلَ قَامَ فَقَالَ : [ إِنَّ رَبِّي أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَسْأَلكُمْ هَلْ أُرْسِلَ أَحَد مِنْكُمْ يَدْعُو إِلَى عِبَادَة غَيْر اللَّه ] ؟ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد , إِنَّا نَشْهَد إِنَّا أُرْسِلْنَا أَجْمَعِينَ بِدَعْوَةٍ وَاحِدَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونه بَاطِل , وَأَنَّك خَاتَم النَّبِيِّينَ وَسَيِّد الْمُرْسَلِينَ , قَدْ اِسْتَبَانَ ذَلِكَ لَنَا بِإِمَامَتِك إِيَّانَا , وَأَنْ لَا نَبِيّ بَعْدك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا عِيسَى اِبْن مَرْيَم فَإِنَّهُ مَأْمُور أَنْ يَتَّبِع أَثَرك ) .

وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر فِي قَوْله تَعَالَى : " وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا " قَالَ : لَقِيَ الرُّسُل لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ .

وَقَالَ الْوَلِيد بْن مُسْلِم فِي قَوْله تَعَالَى : " وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مَنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا " قَالَ : سَأَلْت عَنْ ذَلِكَ وَلِيد بْن دَعْلَج فَحَدَّثَنِي عَنْ قَتَادَة قَالَ : سَأَلَهُمْ لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ , لَقِيَ الْأَنْبِيَاء وَلَقِيَ آدَم وَمَالِك خَازِن النَّار . قُلْت : هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة . و " مِنْ " الَّتِي قَبْل " رُسُلنَا " عَلَى هَذَا الْقَوْل غَيْر زَائِدَة .

وَقَالَ الْمُبَرِّد وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ الْمَعْنَى وَاسْأَلْ أُمَم مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا . وَرُوِيَ أَنَّ فِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود : " وَاسْأَلْ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلك رُسُلنَا " . وَهَذِهِ قِرَاءَة مُفَسِّرَة ; ف " مِنْ " عَلَى هَذَا زَائِدَة , وَهُوَ قَوْل مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة وَعَطَاء وَالْحَسَن وَابْن عَبَّاس أَيْضًا . أَيْ وَاسْأَلْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَابَيْنِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل .

وَقِيلَ : الْمَعْنَى سَلْنَا يَا مُحَمَّد عَنْ الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ أَرْسَلْنَا قَبْلك ; فَحُذِفَتْ " عَنْ " , وَالْوَقْف عَلَى " رُسُلنَا " عَلَى هَذَا تَامّ , ثُمَّ اِبْتَدَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ عَلَى طَرِيق الْإِنْكَار . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَاسْأَلْ تُبَّاع مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا , فَحَذَفَ الْمُضَاف . وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته .

أَخْبَرَ عَنْ الْآلِهَة كَمَا أَخْبَرَ عَمَّنْ يَعْقِل فَقَالَ : " يُعْبَدُونَ " وَلَمْ يَقُلْ تُعْبَد وَلَا يُعْبَدْنَ , لِأَنَّ الْآلِهَة جَرَتْ عِنْدهمْ مَجْرَى مَنْ يَعْقِل فَأَجْرَى الْخَبَر عَنْهُمْ مَجْرَى الْخَبَر عَمَّنْ يَعْقِل .

وَسَبَب هَذَا الْأَمْر بِالسُّؤَالِ أَنَّ الْيَهُود وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مَا جِئْت بِهِ مُخَالِف لِمَنْ كَانَ قَبْلك ; فَأَمَرَهُ اللَّه بِسُؤَالِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَى جِهَة التَّوْقِيف وَالتَّقْرِير ; لَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي شَكّ مِنْهُ .

وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي سُؤَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَتْ الرُّسُل بُعِثْنَا بِالتَّوْحِيدِ ; قَالَهُ الْوَاقِدِيّ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلهُمْ لِيَقِينِهِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; حَتَّى حَكَى اِبْن زَيْد أَنَّ مِيكَائِيل قَالَ لِجِبْرِيل : ( هَلْ سَأَلَك مُحَمَّد عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ جِبْرِيل : هُوَ أَشَدّ إِيمَانًا وَأَعْظَم يَقِينًا مِنْ أَنْ يُسْأَل عَنْ ذَلِكَ ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرِّوَايَتَيْنِ حَسْبَمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الزخرف الآية رقم 46
" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا " لَمَّا أَعْلَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُنْتَقِم لَهُ مِنْ عَدُوّهُ وَأَقَامَ الْحُجَّة بِاسْتِشْهَادِ الْأَنْبِيَاء وَاتِّفَاق الْكُلّ عَلَى التَّوْحِيد أَكَّدَ ذَلِكَ قِصَّة مُوسَى وَفِرْعَوْن , وَمَا كَانَ مِنْ فِرْعَوْن مِنْ التَّكْذِيب , وَمَا نَزَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ مِنْ الْإِغْرَاق وَالتَّعْذِيب : أَيْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِالْمُعْجِزَاتِ وَهِيَ التِّسْع الْآيَات فَكُذِّبَ ; فَجُعِلَتْ الْعَاقِبَة الْجَمِيلَة لَهُ , فَكَذَلِكَ أَنْتَ .
فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَسورة الزخرف الآية رقم 47
اِسْتِهْزَاء وَسُخْرِيَة ; يُوهِمُونَ أَتْبَاعهمْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَات سِحْر وَتَخْيِيل , وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا .
وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَسورة الزخرف الآية رقم 48
أَيْ كَانَتْ آيَات مُوسَى مِنْ أَكْبَر الْآيَات , وَكَانَتْ كُلّ وَاحِدَة أَعْظَم مِمَّا قَبْلهَا .

وَقِيلَ : " إِلَّا هِيَ أَكْبَر مِنْ أُخْتهَا " لِأَنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي عِلْمًا وَالثَّانِيَة تَقْتَضِي عِلْمًا , فَتُضَمّ الثَّانِيَة إِلَى الْأُولَى فَيَزْدَاد الْوُضُوح , وَمَعْنَى الْأُخُوَّة الْمُشَاكَلَة الْمُنَاسَبَة ; كَمَا يُقَال : هَذِهِ صَاحِبَة هَذِهِ ; أَيْ قَرِيبَتَانِ فِي الْمَعْنَى .

أَيْ عَلَى تَكْذِيبهمْ بِتِلْكَ الْآيَات ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَقَدْ أَخَذْنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ وَنَقْص مِنْ الثَّمَرَات " [ الْأَعْرَاف : 130 ] . وَالطُّوفَان وَالْجَرَاد وَالْقُمَّل وَالضَّفَادِع . وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَات الْأَخِيرَة عَذَابًا لَهُمْ وَآيَات لِمُوسَى .

" لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " مِنْ كُفْرهمْ .
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَسورة الزخرف الآية رقم 49
لَمَّا عَايَنُوا الْعَذَاب قَالُوا يَا أَيّهَا السَّاحِر ; نَادَوْهُ بِمَا كَانُوا يُنَادُونَهُ بِهِ مِنْ قَبْل ذَلِكَ عَلَى حَسَب عَادَتهمْ . وَقِيلَ : كَانُوا يُسَمَّوْنَ الْعُلَمَاء سَحَرَة فَنَادَوْهُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّعْظِيم .

قَالَ اِبْن عَبَّاس : " يَا أَيّهَا السَّاحِر " يَا أَيّهَا الْعَالِم , وَكَانَ السَّاحِر فِيهِمْ عَظِيمًا يُوَقِّرُونَهُ ; وَلَمْ يَكُنْ السِّحْر صِفَة ذَمّ . وَقِيلَ : يَا أَيّهَا الَّذِي غَلَبَنَا بِسِحْرِهِ ; يُقَال : سَاحَرْتُهُ فَسَحَرْته ; أَيْ غَلَبْته بِالسِّحْرِ ; كَقَوْلِ الْعَرَب : خَاصَمْته فَخَصَمْته أَيْ غَلَبْته بِالْخُصُومَةِ , وَفَاضَلْته فَفَضَلْته , وَنَحْوهَا . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادُوا بِهِ السَّاحِر عَلَى الْحَقِيقَة عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَام , فَلَمْ يَلُمْهُمْ عَلَى ذَلِكَ رَجَاء أَنْ يُؤْمِنُوا .

وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَأَبُو حَيْوَة وَيَحْيَى بْن وَثَّاب " أَيُّهُ السَّاحِر " بِغَيْرِ أَلِف وَالْهَاء مَضْمُومَة ; وَعِلَّتهَا أَنَّ الْهَاء خُلِطَتْ بِمَا قَبْلهَا وَأُلْزِمَتْ ضَمّ الْيَاء الَّذِي أَوْجَبَهُ النِّدَاء الْمُفْرَد . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : يَأَيُّهُ الْقَلْب اللَّجُوج النَّفْس أَفِقْ عَنْ الْبِيض الْحِسَان اللُّعْس فَضَمَّ الْهَاء حَمْلًا عَلَى ضَمّ الْيَاء ; وَقَدْ مَضَى فِي " النُّور " مَعْنَى هَذَا . وَوَقَفَ أَبُو عَمْرو وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَحْيَى وَالْكِسَائِيّ " أَيّهَا " بِالْأَلِفِ عَلَى الْأَصْل . الْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلِف ; لِأَنَّهَا كَذَلِكَ وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَف .

" اُدْعُ لَنَا رَبّك بِمَا عَهِدَ عِنْدك " أَيْ بِمَا أَخْبَرَنَا عَنْ عَهْده إِلَيْك إِنَّا إِنْ آمَنَّا كَشَفَ عَنَّا ; فَسَلْهُ يَكْشِف عَنَّا

" إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ " أَيْ فِيمَا يُسْتَقْبَل .

وَقِيلَ : قَوْلهمْ : " إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ " إِخْبَار مِنْهُمْ عَنْ أَنْفُسهمْ بِالْإِيمَانِ ; فَلَمَّا كَشَفَ عَنْهُمْ الْعَذَاب اِرْتَدُّوا .
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَسورة الزخرف الآية رقم 50
" فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَاب " أَيْ فَدَعَا فَكَشَفْنَا .

" إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ " أَيْ يَنْقُضُونَ الْعَهْد الَّذِي جَعَلُوهُ عَلَى أَنْفُسهمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا . وَقِيلَ : قَوْلهمْ : " إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ " إِخْبَار مِنْهُمْ عَنْ أَنْفُسهمْ بِالْإِيمَانِ ; فَلَمَّا كَشَفَ عَنْهُمْ الْعَذَاب اِرْتَدُّوا .
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَسورة الزخرف الآية رقم 51
قِيلَ : لَمَّا رَأَى تِلْكَ الْآيَات خَافَ مَيْل الْقَوْم إِلَيْهِ فَجَمَعَ قَوْمه فَقَالَ : فَنَادَى بِمَعْنَى قَالَ ; قَالَهُ أَبُو مَالِك . فَيَجُوز أَنْ يَكُون عِنْده عُظَمَاء الْقِبْط فَرَفَعَ صَوْته بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنهمْ ثُمَّ يَنْشُر عَنْهُ فِي جُمُوع الْقِبْط ; وَكَأَنَّهُ نُودِيَ بَيْنهمْ .

وَقِيلَ : إِنَّهُ أَمَرَ مَنْ يُنَادِي فِي قَوْمه ; قَالَهُ اِبْن جُرَيْج .

" قَالَ يَا قَوْم أَلَيْسَ لِي مُلْك مِصْر " أَيْ لَا يُنَازِعنِي فِيهِ أَحَد . قِيلَ : إِنَّهُ مَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا فِي مِثْلهَا ; حَكَاهُ النَّقَّاش . وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمُلْكِ هُنَا الْإِسْكَنْدَرِيَّة .

" وَهَذِهِ الْأَنْهَار تَجْرِي مِنْ تَحْتِي " يَعْنِي أَنْهَار النِّيل , وَمُعْظَمهَا أَرْبَعَة : نَهَر الْمُلْك وَنَهَر طُولُون وَنَهَر دِمْيَاط وَنَهَر تَنِيس . وَقَالَ قَتَادَة : كَانَتْ جِنَانًا وَأَنْهَارًا تَجْرِي مِنْ تَحْت قُصُوره . وَقِيلَ : مِنْ تَحْت سَرِيره . وَقِيلَ : " مِنْ تَحْتِي " أَيْ تَصَرُّفِي نَافِذ فِيهَا مِنْ غَيْر صَانِع . وَقِيلَ : كَانَ إِذَا أَمْسَكَ عَنَانه أَمْسَكَ النِّيل عَنْ الْجَرْي قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَيَجُوز ظُهُور خَوَارِق الْعَادَة عَلَى مُدَّعِي الرُّبُوبِيَّة ; إِذْ لَا حَاجَة فِي التَّمْيِيز الْإِلَه مِنْ غَيْر الْإِلَه إِلَى فِعْل خَارِق لِلْعَادَةِ .

وَقِيلَ مَعْنَى " وَهَذِهِ الْأَنْهَار تَجْرِي مِنْ تَحْتِي " أَيْ الْقُوَّاد وَالرُّؤَسَاء وَالْجَبَابِرَة يَسِيرُونَ مِنْ تَحْت لِوَائِي ; قَالَهُ الضَّحَّاك . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْأَنْهَارِ الْأَمْوَال , وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْأَنْهَارِ لِكَثْرَتِهَا وَظُهُورهَا . وَقَوْله : " تَجْرِي مِنْ تَحْتِي " أَيْ أُفَرِّقهَا عَلَى مَنْ يَتْبَعنِي ; لِأَنَّ التَّرْغِيب وَالْقُدْرَة فِي الْأَمْوَال دُون الْأَنْهَار .

" أَفَلَا تُبْصِرُونَ " عَظَمَتِي وَقُوَّتِي وَضَعْف مُوسَى . وَقِيلَ : قُدْرَتِي عَلَى نَفَقَتكُمْ وَعَجْز مُوسَى . وَالْوَاو فِي " وَهَذِهِ " يَجُوز أَنْ تَكُون عَاطِفَة لِلْأَنْهَارِ عَلَى " مُلْك مِصْر " و " تَجْرِي " نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْهَا . وَيَجُوز أَنْ تَكُون وَاو الْحَال , وَاسْم الْإِشَارَة مُبْتَدَأ , و " الْأَنْهَار " صِفَة لِاسْمِ الْإِشَارَة , و " تَجْرِي " خَبَر لِلْمُبْتَدَأِ . وَفَتْح الْيَاء مِنْ " تَحْتِي " أَهْل الْمَدِينَة وَالْبَزِّي وَأَبُو عَمْرو , وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ . وَعَنْ الرَّشِيد أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَهَا قَالَ : لَأُوَلِّيَنهَا أَحْسَن عَبِيدِي , فَوَلَّاهَا الْخَصِيب , وَكَانَ عَلَى وُضُوئِهِ . وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن طَاهِر أَنَّهُ وَلِيَهَا فَخَرَجَ إِلَيْهَا شَارِفهَا وَوَقَعَ عَلَيْهَا بَصَره قَالَ : أَهَذِهِ الْقَرْيَة الَّتِي اِفْتَخَرَ بِهَا فِرْعَوْن حَتَّى قَالَ : " أَلَيْسَ لِي مُلْك مِصْر " ؟ ! وَاَللَّه لَهِيَ عِنْدِي أَقَلّ مِنْ أَنْ أَدْخُلهَا ! فَثَنَّى عَنَانه .
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُسورة الزخرف الآية رقم 52
ثُمَّ صَرَّحَ بِحَالِهِ فَقَالَ : " أَمْ أَنَا خَيْر " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة السُّدِّيّ : " أَمْ " بِمَعْنَى " بَلْ " وَلَيْسَتْ بِحَرْفِ عَطْف ; عَلَى قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ .

وَالْمَعْنَى : قَالَ فِرْعَوْن لِقَوْمِهِ بَلْ أَنَا خَيْر " مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِين " أَيْ لَا عَزْله فَهُوَ يَمْتَهِن نَفْسه فِي حَاجَاته لِحَقَارَتِهِ وَضَعْفه " وَلَا يَكَاد يُبِين " يَعْنِي مَا كَانَ فِي لِسَانه مِنْ الْعُقْدَة ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " طَه " وَقَالَ الْفَرَّاء : فِي " أَمْ " وَجْهَانِ : إِنْ شِئْت جَعَلْتهَا مِنْ الِاسْتِفْهَام الَّذِي جَعَلَ بِأَمْ لِاتِّصَالِهِ بِكَلَامِ قَبْله , وَإِنْ شِئْت جَعَلْتهَا نَسَقًا عَلَى قَوْله : " أَلَيْسَ لِي مُلْك مِصْر " . وَقِيلَ : هِيَ زَائِدَة .

وَرَوَى أَبُو زَيْد عَنْ الْعَرَب أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ " أَمْ " زَائِدَة ; وَالْمَعْنَى أَنَا خَيْر مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِين . وَقَالَ الْأَخْفَش : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالْمَعْنَى : أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ ; كَمَا قَالَ : أَيَا ظَبْيَة الْوَعْسَاء بَيْن جَلَاجِل وَبَيْن النَّقَا أَأَنْت أَمْ أُمّ سَالِم أَيْ أَنْتَ أَحْسَن أَمْ أُمّ سَالِم . ثُمَّ اِبْتِدَاء فَقَالَ : ( أَنَا خَيْر ) . وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : الْمَعْنَى " أَفَلَا تُبْصِرُونَ " , أَمْ أَنْتُمْ بُصَرَاء , فَعَطَفَ ب " أَمْ " عَلَى " أَفَلَا تُبْصِرُونَ " لِأَنَّ مَعْنَى " أَمْ أَنَا خَيْر " أَمْ أَيْ تُبْصِرُونَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا لَهُ أَنْتَ خَيْر مِنْهُ كَانُوا عِنْده بُصَرَاء .

وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيّ وَيَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ أَنَّهُمَا وَقَفَا عَلَى " أَمْ " عَلَى أَنْ يَكُون التَّقْدِير أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ ; فَحَذَفَ تُبْصِرُونَ الثَّانِي . وَقِيلَ مَنْ وَقَفَ عَلَى " أَمْ " جَعَلَهَا زَائِدَة , وَكَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى " تُبْصِرُونَ " مِنْ قَوْله : " أَفَلَا تُبْصِرُونَ " . وَلَا يَتِمّ الْكَلَام عَلَى " تُبْصِرُونَ " عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّ " أَمْ " تَقْتَضِي الِاتِّصَال بِمَا قَبْلهَا . وَقَالَ قَوْم : الْوَقْف عَلَى قَوْله : " أَفَلَا تُبْصِرُونَ " ثُمَّ اِبْتَدَأَ " أَمْ أَنَا خَيْر " بِمَعْنَى بَلْ أَنَا ; وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : بَدَتْ مِثْل قَرْن الشَّمْس فِي رَوْنَق الضُّحَى وَصُورَتهَا أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْن أَمْلَح فَمَعْنَاهُ : بَلْ أَنْتَ أَمْلَح . وَذَكَرَ الْفَرَّاء أَنَّ بَعْض الْقُرَّاء قَرَأَ " أَمَّا أَنَا خَيْر " ; وَمَعْنَى هَذَا أَلَسْت خَيْرًا .

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى " أَمْ " ثُمَّ يَبْتَدِئ " أَنَا خَيْر " وَقَدْ ذُكِرَ .
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَسورة الزخرف الآية رقم 53
" فَلَوْلَا " أَيْ هَلَّا " أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَة مِنْ ذَهَب " إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ عَادَة الْوَقْت وَزِيّ أَهْل الشَّرَف .

وَقَرَأَ حَفْص " أَسْوِرَة " جَمْع سِوَار , كَخِمَارٍ وَأَخْمِرَة . وَقَرَأَ أُبَيّ " أَسَاوِر " جَمْع إِسْوَار . وَابْن مَسْعُود " أَسَاوِير " . الْبَاقُونَ " أَسَاوِرَة " جَمْع الْأَسْوِرَة فَهُوَ جَمْع الْجَمْع . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " أَسَاوِرَة " جَمْع " إِسْوَار " وَأُلْحِقَتْ الْهَاء فِي الْجَمْع عِوَضًا مِنْ الْيَاء ; فَهُوَ مِثْل زَنَادِيق وَزَنَادِقَة , وَبَطَارِيق وَبَطَارِقَة , وَشَبَهه . وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : وَاحِد الْأَسَاوِرَة وَالْأَسَاوِر وَالْأَسَاوِير إِسْوَار , وَهِيَ لُغَة فِي سِوَار .

قَالَ مُجَاهِد : كَانُوا إِذَا سَوَّرُوا رَجُلًا سَوَّرُوهُ بِسِوَارَيْنِ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقِ ذَهَب عَلَامَة لِسِيَادَتِهِ , فَقَالَ فِرْعَوْن : هَلَّا أَلْقَى رَبّ مُوسَى عَلَيْهِ أَسَاوِرَة مِنْ ذَهَب إِنْ كَانَ صَادِقًا !

يَعْنِي مُتَتَابِعِينَ ; فِي قَوْل قَتَادَة . مُجَاهِد : يَمْشُونَ مَعًا . اِبْن عَبَّاس : يُعَاوِنُونَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ ; وَالْمَعْنَى : هَلَّا ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَة الَّتِي يَزْعُم أَنَّهَا عِنْد رَبّه حَتَّى يَتَكَثَّر بِهِمْ وَيَصْرِفهُمْ عَلَى أَمْره وَنَهْيه ; فَيَكُون ذَلِكَ أَهْيَب فِي الْقُلُوب . فَأَوْهَمَ قَوْمه أَنَّ رُسُل اللَّه يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا كَرُسُلِ الْمُلُوك فِي الشَّاهِد , وَلَمْ يَعْلَم أَنَّ رُسُل اللَّه إِنَّمَا أُيِّدُوا بِالْجُنُودِ السَّمَاوِيَّة ; وَكُلّ عَاقِل يَعْلَم أَنَّ حِفْظ اللَّه مُوسَى مَعَ تَفَرُّده وَوَحْدَته مِنْ فِرْعَوْن مَعَ كَثْرَة أَتْبَاعه , وَإِمْدَاد مُوسَى بِالْعَصَا وَالْيَد الْبَيْضَاء كَانَ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يَكُون لَهُ أَسْوِرَة أَوْ مَلَائِكَة يَكُونُونَ مَعَهُ أَعْوَانًا - فِي قَوْل مُقَاتِل - أَوْ دَلِيلًا عَلَى صِدْقه - فِي قَوْل الْكَلْبِيّ - وَلَيْسَ يَلْزَم هَذَا لِأَنَّ الْإِعْجَاز كَانَ , وَقَدْ كَانَ فِي الْجَائِز أَنْ يَكْذِب مَعَ مَجِيء الْمَلَائِكَة كَمَا كَذَبَ مَعَ ظُهُور الْآيَات .

وَذَكَرَ فِرْعَوْن الْمَلَائِكَة حِكَايَة عَنْ لَفْظ مُوسَى ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن بِالْمَلَائِكَةِ مَنْ لَا يَعْرِف خَالِقهمْ .
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَسورة الزخرف الآية رقم 54
قَوْله تَعَالَى " فَاسْتَخَفَّ قَوْمه " قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْمَعْنَى فَاسْتَجْهَلَ قَوْمه " فَأَطَاعُوهُ " لِخِفَّةِ أَحْلَامهمْ وَقِلَّة عُقُولهمْ ; يُقَال : اِسْتَخَفَّهُ الْفَرَح أَيْ أَزْعَجَهُ , وَاسْتَخَفَّهُ أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْجَهْل ; وَمِنْهُ : " وَلَا يَسْتَخِفَّنك الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ " [ الرُّوم : 60 ] . وَقِيلَ : اِسْتَفَزَّهُمْ بِالْقَوْلِ فَأَطَاعُوهُ عَلَى , التَّكْذِيب .

وَقِيلَ : اِسْتَخَفَّ قَوْمه أَيْ وَجَدَهُمْ خِفَاف الْعُقُول . وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَجِب أَنْ يُطِيعُوهُ , فَلَا بُدّ مِنْ إِضْمَار بَعِيد تَقْدِيره وَجَدَهُمْ خِفَاف الْعُقُول فَدَعَاهُمْ إِلَى الْغَوَايَة فَأَطَاعُوهُ . وَقِيلَ : اِسْتَخَفَّ قَوْمه وَقَهَرَهُمْ حَتَّى اِتَّبَعُوهُ ; يُقَال : اِسْتَخَفَّهُ خِلَاف اِسْتَثْقَلَهُ , وَاسْتَخَفَّ بِهِ أَهَانَهُ .

" إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ " أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَة اللَّه .
فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَسورة الزخرف الآية رقم 55
رَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَيْ غَاظُونَا وَأَغْضَبُونَا . وَرَوَى عَنْهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة : أَيْ أَسْخَطُونَا . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِف , وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ السَّخَط إِظْهَار الْكَرَاهَة . وَالْغَضَب إِرَادَة الِانْتِقَام . الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَسَف هَاهُنَا بِمَعْنَى الْغَضَب ; وَالْغَضَب مِنْ اللَّه إِمَّا إِرَادَة الْعُقُوبَة فَيَكُون مِنْ صِفَات الذَّات , وَإِمَّا عَيْن الْعُقُوبَة فَيَكُون مِنْ صِفَات الْفِعْل ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْمَاوَرْدِيّ .

وَقَالَ عُمَر بْن ذَرّ : يَا أَهْل مَعَاصِي اللَّه , لَا تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْم اللَّه عَنْكُمْ , وَاحْذَرُوا أَسَفه ; فَإِنَّهُ قَالَ : " فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ " .

وَقِيلَ : " آسَفُونَا " أَيْ أَغْضَبُوا رُسُلنَا وَأَوْلِيَاءَنَا الْمُؤْمِنِينَ ; نَحْو السَّحَرَة وَبَنِي إِسْرَائِيل . وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يُؤْذُونَ اللَّه " [ الْأَحْزَاب : 57 ] و " يُحَارِبُونَ اللَّه " [ الْمَائِدَة : 33 ] أَيْ أَوْلِيَاءَهُ وَرُسُله .
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَسورة الزخرف الآية رقم 56
قَوْله تَعَالَى " فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا " أَيْ جَعَلْنَا قَوْم فِرْعَوْن سَلَفًا . قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ : " سَلَفًا " لِمَنْ عَمِلَ عَمَلهمْ , و " مَثَلًا " لِمَنْ يَعْمَل عَمَلهمْ .

وَقَالَ مُجَاهِد : " سَلَفًا " إِخْبَارًا لِأُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , " وَمَثَلًا " أَيْ عِبْرَة لَهُمْ . وَعَنْهُ أَيْضًا " سَلَفًا " لِكُفَّارِ قَوْمك يَتَقَدَّمُونَهُمْ إِلَى النَّار .

قَتَادَة : " سَلَفًا " إِلَى النَّار , " وَمَثَلًا " عِظَة لِمَنْ يَأْتِي بَعْدهمْ . وَالسَّلَف الْمُتَقَدِّم ; يُقَال : سَلَفَ يَسْلُف سَلَفًا ; مِثْل طَلَبَ طَلَبًا ; أَيْ تَقَدَّمَ وَمَضَى . وَسَلَفَ لَهُ عَمَل صَالِح أَيْ تَقَدَّمَ . وَالْقَوْم السِّلَاف الْمُتَقَدِّمُونَ . وَسَلَفَ الرَّجُل : آبَاؤُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ ; وَالْجَمْع أَسْلَاف وَسُلَّاف .

وَقِرَاءَة الْعَامَّة " سَلَفًا " ( بِفَتْحِ السِّين وَاللَّام ) جَمْع سَالِف ; كَخَادِمٍ وَخَدَم , وَرَاصِد وَرَصَد , وَحَارِس وَحَرَس . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " سُلُفًا " ( بِضَمِّ السِّين وَاللَّام ) . قَالَ الْفَرَّاء هُوَ جَمْع سَلِيف , نَحْو سَرِير وَسُرَر . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : هُوَ جَمْع سَلَف ; نَحْو خَشَب وَخُشُب , وَثَمَر وَثُمُر ; وَمَعْنَاهُمَا وَاحِد . وَقَرَأَ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَعَلْقَمَة وَأَبُو وَائِل وَالنَّخَعِيّ وَحُمَيْد بْن قَيْس " سُلَفًا " ( بِضَمِّ السِّين وَفَتْح اللَّام ) جَمْع سُلْفَة , أَيْ فِرْقَة مُتَقَدِّمَة . قَالَ الْمُؤَرِّج وَالنَّضْر بْن شُمَيْل : " سُلَفًا " جَمْع سُلْفَة , نَحْو غَرْفَة وَغُرَف , وَطُرْفَة وَطُرَف , وَظُلْمَة وَظُلَم .
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَسورة الزخرف الآية رقم 57
لَمَّا قَالَ تَعَالَى : " وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُون الرَّحْمَن آلِهَة يُعْبَدُونَ " [ الزُّخْرُف : 45 ] تَعَلَّقَ الْمُشْرِكُونَ بِأَمْرِ عِيسَى وَقَالُوا : مَا يُرِيد مُحَمَّد إِلَّا أَنْ نَتَّخِذهُ إِلَهًا كَمَا اِتَّخَذَتْ النَّصَارَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم إِلَهًا ; قَالَ قَتَادَة . وَنَحْوه عَنْ مُجَاهِد قَالَ : إِنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيد أَنْ نَعْبُدهُ كَمَا عَبَدَ قَوْم عِيسَى عِيسَى ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة .

وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ بِهِ مُنَاظَرَة عَبْد اللَّه بْن الزِّبِعْرَى مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْن عِيسَى , وَأَنَّ الضَّارِب لِهَذَا الْمِثْل هُوَ عَبْد اللَّه بْن الزِّبَعْرَى السَّهْمِيّ حَالَة كُفْره لَمَّا قَالَتْ لَهُ قُرَيْش إِنَّ مُحَمَّدًا يَتْلُو : " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه حَصَب جَهَنَّم " [ الْأَنْبِيَاء : 98 ] الْآيَة , فَقَالَ : لَوْ حَضَرْته لَرَدَدْت عَلَيْهِ ; قَالُوا : وَمَا كُنْت تَقُول لَهُ ؟ قَالَ : كُنْت أَقُول لَهُ هَذَا الْمَسِيح تَعْبُدهُ النَّصَارَى , وَالْيَهُود تَعْبُد عُزَيْرًا , أَفَهُمَا مِنْ حَصَب جَهَنَّم ؟ فَعَجِبَتْ قُرَيْش مِنْ مَقَالَته وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ خُصِمَ ; وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله : " يَصِدُّونَ " فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 101 ] . وَلَوْ تَأَمَّلَ اِبْن الزِّبَعْرَى الْآيَة مَا اِعْتَرَضَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ قَالَ : " وَمَا تَعْبُدُونَ " وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ تَعْبُدُونَ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَصْنَام وَنَحْوهَا مِمَّا لَا يَعْقِل , وَلَمْ يُرِدْ الْمَسِيح وَلَا الْمَلَائِكَة وَإِنْ كَانُوا مَعْبُودِينَ . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آخِر سُورَة " الْأَنْبِيَاء " .

وَرَوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقُرَيْشٍ : [ يَا مَعْشَر قُرَيْش لَا خَيْر فِي أَحَد يُعْبَد مِنْ دُون اللَّه ] . قَالُوا : أَلَيْسَ تَزْعُم أَنَّ عِيسَى كَانَ عَبْدًا نَبِيًّا وَعَبْدًا صَالِحًا , فَإِنْ كَانَ كَمَا تَزْعُم فَقَدْ كَانَ يُعْبَد مِنْ دُون اللَّه ! . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَمَّا ضُرِبَ اِبْن مَرْيَم مَثَلًا إِذَا قَوْمك يَصِدُّونَ " أَيْ يَضِجُّونَ كَضَجِيجِ الْإِبِل عِنْد حَمْل الْأَثْقَال .

وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ " يَصُدُّونَ " ( بِضَمِّ الصَّاد ) وَمَعْنَاهُ يُعْرِضُونَ ; قَالَهُ النَّخَعِيّ , وَكَسْر الْبَاقُونَ . قَالَ الْكِسَائِيّ : هُمَا لُغَتَانِ ; مِثْل يُعْرِشُونَ وَيَعْرُشُونَ وَيَنِمُّونَ وَيَنُمُّونَ , وَمَعْنَاهُ يَضِجُّونَ .

قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَصَدَّ يَصُدّ صَدِيدًا ; أَيْ ضَجَّ . وَقِيلَ : إِنَّهُ بِالضَّمِّ مِنْ الصُّدُود وَهُوَ الْإِعْرَاض , وَبِالْكَسْرِ مِنْ الضَّجِيج ; قَالَهُ قُطْرُب . قَالَ أَبُو عُبَيْد : لَوْ كَانَتْ مِنْ الصُّدُود عَنْ الْحَقّ لَكَانَتْ : إِذَا قَوْمك عَنْهُ يَصُدُّونَ . الْفَرَّاء : هُمَا سَوَاء ; مِنْهُ وَعَنْهُ . اِبْن الْمُسَيِّب : يَصُدُّونَ يَضِجُّونَ . الضَّحَّاك يَعِجُّونَ . اِبْن عَبَّاس : يَضْحَكُونَ . أَبُو عُبَيْدَة : مَنْ ضَمَّ فَمَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ ; فَيَكُون الْمَعْنَى : مِنْ أَجْل الْمَيْل يَعْدِلُونَ . وَلَا يُعَدَّى " يَصُدُّونَ " بِمِنْ , وَمَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ يَضِجُّونَ ; ف " مِنْ " مُتَّصِلَة ب " يَصُدُّونَ " وَالْمَعْنَى يَضِجُّونَ مِنْهُ .
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَسورة الزخرف الآية رقم 58
أَيْ آلِهَتنَا خَيْر أَمْ عِيسَى ؟ قَالَهُ السُّدِّيّ . وَقَالَ : خَاصَمُوهُ وَقَالُوا إِنَّ كُلّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُون اللَّه فِي النَّار , فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ تَكُون آلِهَتنَا مَعَ عِيسَى وَالْمَلَائِكَة وَعُزَيْر , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 101 ] الْآيَة .

وَقَالَ قَتَادَة : " أَمْ هُوَ " يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " آلِهَتنَا خَيْر أَمْ هَذَا " . وَهُوَ يُقَوِّي قَوْل قَتَادَة , فَهُوَ اِسْتِفْهَام تَقْرِير فِي أَنَّ آلِهَتهمْ خَيْر . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوب " أَآلِهَتنَا " بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ , وَلَيَّنَ الْبَاقُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

" مَا ضَرَبُوهُ لَك إِلَّا جَدَلًا " " جَدَلًا " حَال ; أَيْ جَدِلِينَ . يَعْنِي مَا ضَرَبُوا لَك هَذَا الْمَثَل إِلَّا إِرَادَة الْجَدَل ; لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَاد بِحَصَبِ جَهَنَّم مَا اِتَّخَذُوهُ مِنْ الْمَوْت " بَلْ هُمْ قَوْم خَصِمُونَ " مُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ . وَفِي صَحِيح التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ مَا ضَلَّ قَوْم بَعْد هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَل - ثُمَّ تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة - " مَا ضَرَبُوهُ لَك إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْم خَصِمُونَ " ] .
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَسورة الزخرف الآية رقم 59
أَيْ مَا عِيسَى إِلَّا عَبْد أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ , وَجَعَلَهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيل ; أَيْ آيَة وَعِبْرَة يُسْتَدَلّ بِهَا . عَلَى قُدْرَة اللَّه تَعَالَى ; فَإِنَّ عِيسَى كَانَ مِنْ غَيْر أَب , ثُمَّ جَعَلَ اللَّه مِنْ إِحْيَاء الْمَوْتَى وَإِبْرَاء الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَالْأَسْقَام كُلّهَا مَا لَمْ يَجْعَل لِغَيْرِهِ فِي زَمَانه , مَعَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيل كَانُوا يَوْمئِذٍ خَيْر الْخَلْق وَأَحَبَّهُ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَالنَّاس دُونهمْ , لَيْسَ أَحَد عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِثْلهمْ .

وَقِيلَ الْمُرَاد بِالْعَبْدِ الْمُنْعَم عَلَيْهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَالْأَوَّل أَظْهَر .
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَسورة الزخرف الآية رقم 60
" وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ " أَيْ بَدَلًا مِنْكُمْ " مَلَائِكَة " يَكُونُونَ خَلَفًا عَنْكُمْ ; قَالَ السُّدِّيّ . وَنَحْوه عَنْ مُجَاهِد قَالَ : مَلَائِكَة يَعْمُرُونَ الْأَرْض بَدَلًا مِنْكُمْ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : إِنَّ " مِنْ " قَدْ تَكُون لِلْبَدَلِ ; بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَة . قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " التَّوْبَة " وَغَيْرهَا .

وَقِيلَ : لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنْ الْإِنْس مَلَائِكَة وَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَة بِذَلِكَ , وَالْجَوَاهِر جِنْس وَاحِد وَالِاخْتِلَاف بِالْأَوْصَافِ ; وَالْمَعْنَى : لَوْ نَشَاء لَأَسْكَنَّا الْأَرْض الْمَلَائِكَة , وَلَيْسَ فِي إِسْكَاننَا إِيَّاهُمْ السَّمَاء شَرَف حَتَّى يَعْبُدُوا , أَوْ يُقَال لَهُمْ بَنَات اللَّه . وَمَعْنَى " يَخْلُفُونَ " يَخْلُف بَعْضهمْ بَعْضًا ; قَالَ اِبْن عَبَّاس
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3