الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَسورة الأعراف الآية رقم 181
فِي الْخَبَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( هُمْ هَذِهِ الْأُمَّة ) وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : ( هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أَعْطَى اللَّه قَوْم مُوسَى مِثْلَهَا ) وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ : " إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقّ حَتَّى يَنْزِل عِيسَى اِبْن مَرْيَم " . فَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخَلِّي الدُّنْيَا فِي وَقْت مِنْ الْأَوْقَات مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى الْحَقّ .
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَسورة الأعراف الآية رقم 182
أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أَنَّهُ سَيَسْتَدْرِجُهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ أَهْل مَكَّة . وَالِاسْتِدْرَاج هُوَ الْأَخْذ بِالتَّدْرِيجِ , مَنْزِلَة بَعْد مَنْزِلَة . وَالدَّرَج : لَفُّ الشَّيْء ; يُقَال : أَدْرَجْته وَدَرَّجْته . وَمِنْهُ أُدْرِجَ الْمَيِّت فِي أَكْفَانه . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الدَّرَجَة ; فَالِاسْتِدْرَاج أَنْ يَحُطّ دَرَجَة بَعْد دَرَجَة إِلَى الْمَقْصُود . قَالَ الضَّحَّاك : كُلَّمَا جَدَّدُوا لَنَا مَعْصِيَة جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَة . وَقِيلَ لِذِي النُّون : مَا أَقْصَى مَا يُخْدَع بِهِ الْعَبْد ؟ قَالَ : بِالْأَلْطَافِ وَالْكَرَامَات ; لِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى : " سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ " نُسْبِغ عَلَيْهِمْ النِّعَم وَنُنْسِيهِمْ الشُّكْر ; وَأَنْشَدُوا : أَحْسَنْت ظَنَّك بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَالَمَتْك اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْت بِهَا وَعِنْد صَفْو اللَّيَالِي يَحْدُث الْكَدَرُ
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌسورة الأعراف الآية رقم 183
أَيْ أُطِيل لَهُمْ الْمُدَّة وَأُمْهِلهُمْ وَأُؤَخِّر عُقُوبَتهمْ . " إِنَّ كَيْدِي " أَيْ مَكْرِي . " مَتِين " أَيْ شَدِيد قَوِيّ . وَأَصْلُهُ مِنْ الْمَتْن , وَهُوَ اللَّحْم الْغَلِيظ الَّذِي عَنْ جَانِب الصُّلْب . قِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قُرَيْش , قَتَلَهُمْ اللَّه فِي لَيْلَة وَاحِدَة بَعْد أَنْ أَمْهَلَهُمْ مُدَّة . نَظِيره " حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة " [ الْأَنْعَام : 44 ] .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌسورة الأعراف الآية رقم 184
أَيْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْوَقْف عَلَى " يَتَفَكَّرُوا " حَسَن . ثُمَّ قَالَ : " مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّة " رَدّ لِقَوْلِهِمْ : " يَا أَيّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّك لَمَجْنُونٌ " [ الْحِجْر : 6 ] . وَقِيلَ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَة عَلَى الصَّفَا يَدْعُو قُرَيْشًا , فَخْذًا فَخْذًا ; فَيَقُول : " يَا بَنِي فُلَان " . يُحَذِّرهُمْ بَأْس اللَّه وَعِقَابه . فَقَالَ قَائِلهمْ : إِنَّ صَاحِبهمْ هَذَا لَمَجْنُون , بَاتَ يُصَوِّت حَتَّى الصَّبَاح .
أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَسورة الأعراف الآية رقم 185
قَوْله تَعَالَى : " أَوَلَمْ يَنْظُرُوا " عَجَب مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ النَّظَر فِي آيَاته ; لِيَعْرِفُوا كَمَال قُدْرَته , حَسَب مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَة " الْبَقَرَة " . وَالْمَلَكُوت مِنْ أَبْنِيَة الْمُبَالَغَة وَمَعْنَاهُ الْمُلْك الْعَظِيم . اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة - وَمَا كَانَ مِثْلهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى : " قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض " [ يُونُس : 101 ] وَقَوْله تَعَالَى : " أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهمْ كَيْف بَنَيْنَاهَا " [ ق : 6 ] وَقَوْله : " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيْفَ خُلِقَتْ " [ الْغَاشِيَة : 17 ] الْآيَة . وَقَوْله : " وَفِي أَنْفُسكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ " [ الذَّارِيَات : 21 ] - مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ النَّظَر فِي آيَاته وَالِاعْتِبَار بِمَخْلُوقَاتِهِ . قَالُوا : وَقَدْ ذَمَّ اللَّه تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْظُر , وَسَلَبَهُمْ الِانْتِفَاع بِحَوَاسِّهِمْ فَقَالَ : " لَهُمْ قُلُوب لَا يَفْقَهُونَ بِهَا " [ الْأَعْرَاف : 179 ] الْآيَة . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَوَّل الْوَاجِبَات , هَلْ هُوَ النَّظَر وَالِاسْتِدْلَال , أَوْ الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق الْحَاصِل فِي الْقَلْب الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْط صِحَّته الْمَعْرِفَة . فَذَهَبَ الْقَاضِي وَغَيْره إِلَى أَنَّ أَوَّل الْوَاجِبَات النَّظَر وَالِاسْتِدْلَال ; لِأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعْلَم ضَرُورَة , وَإِنَّمَا يُعْلَم بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَال بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا لِمَعْرِفَتِهِ . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه حَيْثُ بَوَّبَ فِي كِتَابه " بَاب الْعِلْم قَبْل الْقَوْل وَالْعَمَل لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " [ مُحَمَّد : 19 ] ) . قَالَ الْقَاضِي : مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاَللَّهِ فَهُوَ جَاهِل , وَالْجَاهِل بِهِ كَافِر . قَالَ اِبْن رُشْد فِي مُقَدِّمَاته : وَلَيْسَ هَذَا بِالْبَيِّنِ ; لِأَنَّ الْإِيمَان يَصِحّ بِالْيَقِينِ الَّذِي قَدْ يَحْصُل لِمَنْ هَدَاهُ اللَّه بِالتَّقْلِيدِ , وَبِأَوَّلِ وَهْلَة مِنْ الِاعْتِبَار بِمَا أَرْشَدَ اللَّه إِلَى الِاعْتِبَار بِهِ فِي غَيْر مَا آيَة . قَالَ : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ الْبَاجِيّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ النَّظَر وَالِاسْتِدْلَال أَوَّل الْوَاجِبَات بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيع الْأَعْصَار عَلَى تَسْمِيَة الْعَامَّة وَالْمُقَلِّد مُؤْمِنِينَ . قَالَ : فَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا لَمَا صَحَّ أَنْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا إِلَّا مَنْ عِنْده عِلْم بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَال . قَالَ : وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْإِيمَان لَا يَصِحّ إِلَّا بَعْد النَّظَر وَالِاسْتِدْلَال لَجَازَ لِلْكُفَّارِ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ : لَا يَحِلّ لَكُمْ قَتْلنَا ; لِأَنَّ مِنْ دِينكُمْ أَنَّ الْإِيمَان لَا يَصِحّ إِلَّا بَعْد النَّظَر وَالِاسْتِدْلَال فَأَخِّرُونَا حَتَّى نَنْظُر وَنَسْتَدِلَّ . قَالَ : وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِهِمْ عَلَى كُفْرهمْ , وَأَلَّا يُقْتَلُوا حَتَّى يَنْظُرُوا وَيَسْتَدِلُّوا . قُلْت : هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه " . وَتَرْجَمَ اِبْن الْمُنْذِر فِي كِتَاب الْأَشْرَاف ( ذِكْر صِفَة كَمَالِ الْإِيمَان ) أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْكَافِر إِذَا قَالَ : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله , وَأَنَّ كُلّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد حَقّ , وَأَبْرَأ مِنْ كُلّ دِين يُخَالِف دِين الْإِسْلَام - وَهُوَ بَالِغ صَحِيح الْعَقْل - أَنَّهُ مُسْلِم . وَإِنْ رَجَعَ بَعْد ذَلِكَ وَأَظْهَرَ الْكُفْر كَانَ مُرْتَدًّا يَجِب عَلَيْهِ مَا يَجِب عَلَى الْمُرْتَدّ . وَقَالَ أَبُو حَفْص الزِّنْجَانِيّ وَكَانَ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن مُحَمَّد السِّمَنَانِيّ يَقُول : أَوَّل الْوَاجِبَات الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ , ثُمَّ النَّظَر وَالِاسْتِدْلَال الْمُؤَدِّيَانِ إِلَى مَعْرِفَة اللَّه تَعَالَى ; فَيَتَقَدَّم وُجُوب الْإِيمَان بِاَللَّهِ تَعَالَى عِنْده عَلَى الْمَعْرِفَة بِاَللَّهِ . قَالَ : وَهَذَا أَقْرَب إِلَى الصَّوَاب وَأَرْفَق بِالْخَلْقِ ; لِأَنَّ أَكْثَرهمْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَة الْمَعْرِفَة وَالنَّظَر وَالِاسْتِدْلَال . فَلَوْ قُلْنَا : إِنَّ أَوَّل الْوَاجِبَات الْمَعْرِفَة بِاَللَّهِ لَأَدَّى إِلَى تَكْفِير الْجَمِّ الْغَفِير وَالْعَدَد الْكَثِير , وَأَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّة إِلَّا آحَاد النَّاس , وَذَلِكَ بَعِيدٌ ; لِأَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ بِأَنَّ أَكْثَر أَهْل الْجَنَّة أُمَّته , وَأَنَّ أُمَم الْأَنْبِيَاء كُلّهمْ صَفّ وَاحِد وَأُمَّته ثَمَانُونَ صَفًّا . وَهَذَا بَيِّنٌ لَا إِشْكَال فِيهِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ . ذَهَبَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِف اللَّه تَعَالَى بِالطُّرُقِ الَّتِي طَرَقُوهَا وَالْأَبْحَاث الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحّ إِيمَانه وَهُوَ كَافِر ; فَيَلْزَم عَلَى هَذَا تَكْفِير أَكْثَر الْمُسْلِمِينَ , وَأَوَّل مَنْ يَبْدَأ بِتَكْفِيرِهِ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافه وَجِيرَانه . وَقَدْ أُورِدَ عَلَى بَعْضهمْ هَذَا فَقَالَ : لَا تُشَنِّع عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْل النَّار . أَوْ كَمَا قَالَ . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل لَا يَصْدُر إِلَّا مِنْ جَاهِل بِكِتَابِ اللَّه وَسُنَّة نَبِيّه ; لِأَنَّهُ ضَيَّقَ رَحْمَة اللَّه الْوَاسِعَة عَلَى شِرْذِمَة يَسِيرَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ , وَاقْتَحَمُوا فِي تَكْفِير عَامَّة الْمُسْلِمِينَ . أَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْل الْأَعْرَابِيّ الَّذِي كَشَفَ عَنْ فَرْجه لِيَبُولَ , وَانْتَهَرَهُ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ اِرْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَم مَعَنَا أَحَدًا . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ حَجَرْت وَاسِعًا " . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة . أَتُرَى هَذَا الْأَعْرَابِيّ عَرَفَ اللَّه بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَان وَالْحُجَّة وَالْبَيَان ؟ وَأَنَّ رَحْمَته وَسِعَتْ كُلّ شَيْء , وَكَمْ مِنْ مِثْله مَحْكُوم لَهُ بِالْإِيمَانِ . بَلْ اِكْتَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثِير مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَحَتَّى إِنَّهُ اِكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ فِي ذَلِكَ . أَلَا تَرَاهُ لَمَّا قَالَ لِلسَّوْدَاءِ : " أَيْنَ اللَّه " ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاء . قَالَ : " مَنْ أَنَا " ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُول اللَّه . قَالَ : " أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة " . وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَر وَلَا اِسْتِدْلَال , بَلْ حَكَمَ بِإِيمَانِهِمْ مِنْ أَوَّل وَهْلَة , وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَنْ النَّظَر وَالْمَعْرِفَة غَفْلَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَلَا يَكُون النَّظَر أَيْضًا وَالِاعْتِبَار فِي الْوُجُوه الْحِسَان مِنْ الْمُرْد وَالنِّسْوَانِ . قَالَ أَبُو الْفَرْج الْجَوْزِيّ : قَالَ أَبُو الطَّيِّب طَاهِر بْن عَبْد اللَّه الطَّبَرِيّ بَلَغَنِي عَنْ هَذِهِ الطَّائِفَة الَّتِي تَسْمَع السَّمَاع أَنَّهَا تُضِيف إِلَيْهِ النَّظَر إِلَى وَجْه الْأَمْرَد , وَرُبَّمَا زَيَّنَتْهُ بِالْحُلِيِّ وَالْمُصَبَّغَات مِنْ الثِّيَاب , وَتَزْعُم أَنَّهَا تَقْصِد بِهِ الِازْدِيَاد فِي الْإِيمَان بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَار وَالِاسْتِدْلَال بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِع . وَهَذِهِ النِّهَايَة فِي مُتَابَعَة الْهَوَى وَمُخَادَعَة الْعَقْل وَمُخَالَفَة الْعِلْم . قَالَ أَبُو الْفَرْج : وَقَالَ الْإِمَام أَبُو الْوَفَاء بْن عُقَيْل لَمْ يُحِلّ اللَّه النَّظَر إِلَّا عَلَى صُورَة لَا مَيْل لِلنَّفْسِ إِلَيْهَا , وَلَا حَظَّ لِلْهَوَى فِيهَا ; بَلْ عِبْرَة لَا يُمَازِجهَا شَهْوَة , وَلَا يُقَارِنهَا لَذَّة . وَلِذَلِكَ مَا بَعَثَ اللَّه سُبْحَانه اِمْرَأَة بِالرِّسَالَةِ , وَلَا جَعَلَهَا قَاضِيًا وَلَا إِمَامًا وَلَا مُؤَذِّنًا ; كُلّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلّ شَهْوَة وَفِتْنَة . فَمَنْ قَالَ : أَنَا أَجِد مِنْ الصُّوَر الْمُسْتَحْسَنَة عِبَرًا كَذَّبْنَاهُ . وَكُلّ مَنْ مَيَّزَ نَفْسه بِطَبِيعَةٍ تُخْرِجُهُ عَنْ طِبَاعِنَا كَذَّبْنَاهُ , وَإِنَّمَا هَذِهِ خُدَع الشَّيْطَان لِلْمُدَّعِينَ . وَقَالَ بَعْض الْحُكَمَاء : كُلّ شَيْء فِي الْعَالَم الْكَبِير لَهُ نَظِير فِي الْعَالَم الصَّغِير , وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي أَحْسَن تَقْوِيم " [ التِّين : 4 ] وَقَالَ : " وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ " [ الذَّارِيَات : 21 ] . وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْه التَّمْثِيل فِي أَوَّل " الْأَنْعَام " . فَعَلَى الْعَاقِل أَنْ يَنْظُر إِلَى نَفْسه وَيَتَفَكَّر فِي خَلْقه مِنْ حِين كَوْنه مَاء دَافِقًا إِلَى كَوْنه خَلْقًا سَوِيًّا , يُعَان بِالْأَغْذِيَةِ وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ , وَيُحْفَظ بِاللِّينِ حَتَّى يَكْتَسِب الْقُوَى , وَيَبْلُغ الْأَشُدّ . وَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ : أَنَا , وَأَنَا , وَنَسِيَ حِين أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنْ الدَّهْر لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا , وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا ; فَيَا وَيْحه إِنْ كَانَ مَحْسُورًا . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مَكِين " إِلَى قَوْله " تُبْعَثُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 - 16 ] فَيَنْظُر أَنَّهُ عَبْد مَرْبُوب مُكَلَّف , مَخُوف بِالْعَذَابِ إِنْ قَصَّرَ , مُرْتَجِيًا بِالثَّوَابِ إِنْ اِئْتَمَرَ , فَيُقْبِل عَلَى عِبَادَة مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ يَرَاهُ وَلَا يَخْشَى النَّاس وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يَخْشَاهُ , وَلَا يَتَكَبَّر عَلَى أَحَد مِنْ عِبَاد اللَّه ; فَإِنَّهُ مُؤَلَّف مِنْ أَقْذَار , مَشْحُون مِنْ أَوْضَار , صَائِر إِلَى جَنَّة إِنْ أَطَاعَ أَوْ إِلَى نَار . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَانَ شُيُوخنَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَنْظُر الْمَرْء فِي الْأَبْيَات الْحِكَمِيَّة الَّتِي جَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَاف الْعِلْمِيَّة : كَيْفَ يَزْهُو مَنْ رَجِيعه أَبَدَ الدَّهْرِ ضَجِيعه فَهُوَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَأَخُوهُ وَرَضِيعه وَهْوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْحَشّ بِصُغْر فَيُطِيعهُ



مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله ; أَيْ وَفِيمَا خَلَقَ اللَّه مِنْ الْأَشْيَاء .



أَيْ وَفِي آجَالِهِمْ الَّتِي عَسَى أَنْ تَكُون قَدْ قَرُبَتْ ; فَهُوَ فِي مَوْضِع خَفْض مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ بِاقْتِرَابِ الْأَجَل يَوْم بَدْر وَيَوْم أُحُد .



أَيْ بِأَيِّ قُرْآن غَيْر مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّقُونَ . وَقِيلَ : الْهَاء لِلْأَجَلِ , عَلَى مَعْنَى بِأَيِّ حَدِيث بَعْد الْأَجَل يُؤْمِنُونَ حِين لَا يَنْفَع الْإِيمَان ; لِأَنَّ الْآخِرَة لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيف .
مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَسورة الأعراف الآية رقم 186
بَيَّنَ أَنَّ إِعْرَاضهمْ لِأَنَّ اللَّه أَضَلَّهُمْ . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّة .


بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف . وَقُرِئَ بِالْجَزْمِ حَمْلًا عَلَى مَوْضِع الْفَاء وَمَا بَعْدهَا .


أَيْ يَتَحَيَّرُونَ . وَقِيلَ : يَتَرَدَّدُونَ . وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَسورة الأعراف الآية رقم 187
" أَيَّانَ " سُؤَال عَنْ الزَّمَان ; مِثْل مَتَى . قَالَ الرَّاجِز : أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي أَيَّانَا أَمَا تَرَى لِنَجْحِهَا أَوَانَا وَكَانَتْ الْيَهُود تَقُول لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ كُنْت نَبِيًّا فَأَخْبِرْنَا عَنْ السَّاعَة مَتَى تَقُوم . وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا ذَلِكَ لِفَرْطِ الْإِنْكَار . وَ " مُرْسَاهَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ , وَالْخَبَر " أَيَّانَ " . وَهُوَ ظَرْف مَبْنِيّ عَلَى الْفَتْح , بُنِيَ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَام . وَ " مُرْسَاهَا " بِضَمِّ الْمِيم , مِنْ أَرْسَاهَا اللَّه , أَيْ أَثْبَتَهَا , أَيْ مَتَى مُثْبَتُهَا , أَيْ مَتَى وُقُوعهَا . وَبِفَتْحِ الْمِيم مِنْ رَسَتْ , أَيْ ثَبَتَتْ وَوَقَفَتْ ; وَمِنْهُ " وَقُدُور رَاسِيَات " [ سَبَأ : 13 ] . قَالَ قَتَادَة : أَيْ ثَابِتَات .


اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ لَمْ يُبَيِّنْهَا لِأَحَدٍ ; حَتَّى يَكُون الْعَبْد أَبَدًا عَلَى حَذَرٍ


أَيْ لَا يُظْهِرُهَا . " لِوَقْتِهَا " أَيْ فِي وَقْتهَا " إِلَّا هُوَ " وَالتَّجْلِيَة : إِظْهَار الشَّيْء ; يُقَال : جَلَّا لِي فُلَان الْخَبَر إِذَا أَظْهَرهُ وَأَوْضَحَهُ .


خَفِيَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْل السَّمَاوَات وَالْأَرْض . وَكُلّ مَا خَفِيَ , عِلْمه فَهُوَ ثَقِيل عَلَى الْفُؤَاد . وَقِيلَ : كَبُرَ مَجِيئُهَا عَلَى أَهْل السَّمَاوَات وَالْأَرْض ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . اِبْن جُرَيْج وَالسُّدِّيّ : عَظُمَ وَصْفُهَا عَلَى أَهْل السَّمَاوَات وَالْأَرْض . وَقَالَ قَتَادَة : وَغَيْره : الْمَعْنَى لَا تُطِيقهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض لِعِظَمِهَا : لِأَنَّ السَّمَاء تَنْشَقّ وَالنُّجُوم تَتَنَاثَر وَالْبِحَار تَنْضُب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى ثَقُلَتْ الْمَسْأَلَة عَنْهَا .



أَيْ فَجْأَة , مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال


أَيْ عَالِمٌ بِهَا كَثِير السُّؤَال عَنْهَا . قَالَ اِبْن فَارِس : الْحَفِيّ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ . وَالْحَفِيُّ : الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَال . قَالَ الْأَعْشَى : فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِل حَفِيّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا يُقَال : أَحْفَى فِي الْمَسْأَلَة وَفِي الطَّلَب , فَهُوَ مُحْفٍ وَحَفِيّ عَلَى التَّكْثِير , مِثْل مُخْصِب وَخَصِيب . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : الْمَعْنَى يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حَفِيّ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهَا , أَيْ مُلِحّ . يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : هُوَ عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير , وَالْمَعْنَى : يَسْأَلُونَك عَنْهَا كَأَنَّك حَفِيّ بِهِمْ أَيْ حَفِيّ بِبِرِّهِمْ وَفَرِح بِسُؤَالِهِمْ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : بَيْنَنَا وَبَيْنَك قَرَابَة فَأَسِرَّ إِلَيْنَا بِوَقْتِ السَّاعَة .


لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا , وَلَكِنْ أَحَد الْعِلْمَيْنِ لِوُقُوعِهَا وَالْآخَر لِكُنْهِهَا .
قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَسورة الأعراف الآية رقم 188
أَيْ لَا أَمْلِكُ أَنْ أَجْلِب إِلَى نَفْسِي خَيْرًا وَلَا أَدْفَع عَنْهَا شَرًّا ; فَكَيْفَ أَمْلِك عِلْم السَّاعَة . وَقِيلَ : لَا أَمْلِك لِنَفْسِي الْهُدَى وَالضَّلَال .


فِي مَوْضِع نَصْب بِالِاسْتِثْنَاءِ . وَالْمَعْنَى : إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يُمْلِكَنِي وَيُمْكِنَنِي مِنْهُ . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَل


الْمَعْنَى لَوْ كُنْت أَعْلَم مَا يُرِيد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنِّي مِنْ قَبْل أَنْ يُعَرِّفَنِيهِ لَفَعَلْته . وَقِيلَ : لَوْ كُنْت أَعْلَم مَتَى يَكُون لِي النَّصْر فِي الْحَرْب لَقَاتَلْت فَلَمْ أُغْلَب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَوْ كُنْت أَعْلَم سَنَة الْجَدْب لَهَيَّأْت لَهَا فِي زَمَن الْخَصْب مَا يَكْفِينِي . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ كُنْت أَعْلَم التِّجَارَة الَّتِي تُنْفَق لَاشْتَرَيْتهَا وَقْت كَسَادهَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ كُنْت أَعْلَم مَتَى أَمُوت لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الْعَمَل الصَّالِح ; عَنْ الْحَسَن وَابْن جُرَيْج . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ كُنْت أَعْلَم الْغَيْب لَأَجَبْت عَنْ كُلّ مَا أُسْأَل عَنْهُ . وَكُلّه مُرَاد , وَاَللَّه أَعْلَم .


هَذَا اِسْتِئْنَاف كَلَام , أَيْ لَيْسَ بِي جُنُون , لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُون . وَقِيلَ : هُوَ مُتَّصِل , وَالْمَعْنَى لَوْ عَلِمْت الْغَيْب لَمَا مَسَّنِيَ سُوء وَلَحَذِرْت , وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى : " إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِير مُبِين " [ الشُّعَرَاء : 115 ] .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَسورة الأعراف الآية رقم 189
قَالَ جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَاد بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَة آدَم .


يَعْنِي حَوَّاء .


لِيَأْنَس بِهَا وَيَطْمَئِنّ , وَكَانَ هَذَا كُلّه فِي الْجَنَّة .


ثُمَّ اِبْتَدَأَ بِحَالَةٍ أُخْرَى هِيَ فِي الدُّنْيَا بَعْد هُبُوطهمَا فَقَالَ : " فَلَمَّا تَغَشَّاهَا " كِنَايَة عَنْ الْوِقَاع .


كُلّ مَا كَانَ فِي بَطْن أَوْ عَلَى رَأْس شَجَرَة فَهُوَ حَمْل بِالْفَتْحِ . وَإِذَا كَانَ عَلَى ظَهْر أَوْ عَلَى رَأْس فَهُوَ حِمْل بِالْكَسْرِ . وَقَدْ حَكَى يَعْقُوب فِي حِمْل النَّخْلَة الْكَسْر . وَقَالَ أَبُو سَعِيد السِّيرَافِيّ : يُقَال فِي حَمْل الْمَرْأَة حَمْل وَحِمْل , يُشَبَّه مَرَّة لِاسْتِبْطَانِهِ بِحَمْلِ الْمَرْأَة , وَمَرَّة لِبُرُوزِهِ وَظُهُوره بِحِمْلِ الدَّابَّة . وَالْحَمْل أَيْضًا مَصْدَر حَمَلَ عَلَيْهِ يَحْمِل حَمْلًا إِذَا صَالَ .



يَعْنِي الْمَنِيّ ; أَيْ اِسْتَمَرَّتْ بِذَلِكَ الْحَمْل الْخَفِيف . يَقُول : تَقُوم وَتَقْعُد وَتُقَلِّب , وَلَا تَكْتَرِث بِحَمْلِهِ إِلَى أَنْ ثَقُلَ ; عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَاسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْل , فَهُوَ مِنْ الْمَقْلُوب ; كَمَا تَقُول : أَدْخَلْت الْقَلَنْسُوَة فِي رَأْسِي . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر " فَمَارَتْ بِهِ " بِأَلِفٍ وَالتَّخْفِيف ; مِنْ مَارَ يَمُور إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ وَتَصَرَّفَ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَيَحْيَى بْن يَعْمَر " فَمَرَتْ بِهِ " خَفِيفَة مِنْ الْمِرْيَة , أَيْ شَكَّتْ فِيمَا أَصَابَهَا ; هَلْ هُوَ حَمْل أَوْ مَرَض , أَوْ نَحْو ذَلِكَ .


صَارَتْ ذَات ثِقْل ; كَمَا تَقُول : أَثْمَرَ النَّخْل . وَقِيلَ : دَخَلَتْ فِي الثِّقْل ; كَمَا تَقُول : أَصْبَحَ وَأَمْسَى .



الضَّمِير فِي " دَعَوَا " عَائِد عَلَى آدَم وَحَوَّاء . وَعَلَى هَذَا الْقَوْل مَا رُوِيَ فِي قَصَص هَذِهِ الْآيَة أَنَّ حَوَّاء لَمَّا حَمَلَتْ أَوَّل حَمْل لَمْ تَدْرِ مَا هُوَ . وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " فَمَرَتْ بِهِ " بِالتَّخْفِيفِ . فَجَزِعَتْ بِذَلِكَ ; فَوَجَدَ إِبْلِيس السَّبِيل إِلَيْهَا . قَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّ إِبْلِيس أَتَى حَوَّاء فِي صُورَة رَجُل لَمَّا أَثْقَلَتْ فِي أَوَّل مَا حَمَلَتْ فَقَالَ : مَا هَذَا الَّذِي فِي بَطْنِك ؟ قَالَتْ : مَا أَدْرِي ! قَالَ : إِنِّي أَخَاف أَنْ يَكُون بَهِيمَة . فَقَالَتْ ذَلِكَ لِآدَم عَلَيْهِ السَّلَام . فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمّ مِنْ ذَلِكَ . ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فَقَالَ : هُوَ مِنْ اللَّه بِمَنْزِلَةٍ , فَإِنْ دَعَوْت اللَّه فَوَلَدْت إِنْسَانًا أَفَتُسَمِّينَهُ بِي ؟ قَالَتْ نَعَمْ . قَالَ : فَإِنِّي أَدْعُو اللَّه . فَأَتَاهَا وَقَدْ وَلَدَتْ فَقَالَ : سَمِّيهِ بِاسْمِي . فَقَالَتْ : وَمَا اِسْمك ؟ قَالَ : الْحَارِث - وَلَوْ سَمَّى لَهَا نَفْسَهُ لَعَرَفَتْهُ - فَسَمَّتْهُ عَبْد الْحَارِث . وَنَحْو هَذَا مَذْكُور مِنْ ضَعِيف الْحَدِيث , فِي التِّرْمِذِيّ وَغَيْره . وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّات كَثِير لَيْسَ لَهَا ثَبَات ; فَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ قَلْب , فَإِنَّ آدَم وَحَوَّاء عَلَيْهِمَا السَّلَام وَإِنْ غَرَّهُمَا بِاَللَّهِ الْغَرُور فَلَا يُلْدَغ الْمُؤْمِن مِنْ جُحْر مَرَّتَيْنِ , عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُطِّرَ وَكُتِبَ . قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَدَعَهُمَا مَرَّتَيْنِ خَدَعَهُمَا فِي الْجَنَّة وَخَدَعَهُمَا فِي الْأَرْض " . وَعَضَّدَ هَذَا بِقِرَاءَةِ السُّلَمِيّ " أَتُشْرِكُونَ " بِالتَّاءِ .


يُرِيد وَلَدًا سَوِيًّا .
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَسورة الأعراف الآية رقم 190
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل الشِّرْك الْمُضَاف إِلَى آدَم وَحَوَّاء , وَهِيَ : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : كَانَ شِرْكًا فِي التَّسْمِيَة وَالصِّفَة , لَا فِي الْعِبَادَة وَالرُّبُوبِيَّة . وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي : إِنَّهُمَا لَمْ يَذْهَبَا إِلَى أَنَّ الْحَارِث رَبُّهُمَا بِتَسْمِيَتِهِمَا وَلَدَهُمَا عَبْد الْحَارِث , لَكِنَّهُمَا قَصَدَا إِلَى أَنَّ الْحَارِث كَانَ سَبَب نَجَاة الْوَلَد فَسَمَّيَاهُ بِهِ كَمَا يُسَمِّي الرَّجُل نَفْسه عَبْد ضَيْفه عَلَى جِهَة الْخُضُوع لَهُ , لَا عَلَى أَنَّ الضَّيْف رَبّه ; كَمَا قَالَ حَاتِم : وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا وَمَا فِيَّ إِلَّا تِيك مِنْ شِيمَة الْعَبْدِ وَقَالَ قَوْم : إِنَّ هَذَا رَاجِع إِلَى جِنْس الْآدَمِيِّينَ وَالتَّبْيِين عَنْ حَال الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذُرِّيَّة آدَم عَلَيْهِ السَّلَام , وَهُوَ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ . فَقَوْله : " جَعَلَا لَهُ " يَعْنِي الذَّكَر وَالْأُنْثَى الْكَافِرِينَ , وَيُعْنَى بِهِ الْجِنْسَانِ . وَدَلَّ عَلَى هَذَا " فَتَعَالَى اللَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ " وَلَمْ يَقُلْ يُشْرِكَانِ . وَهَذَا قَوْل حَسَن . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة " مِنْ هَيْئَة وَاحِدَة وَشَكْل وَاحِد " وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجهَا " أَيْ مِنْ جِنْسهَا " فَلَمَّا تَغَشَّاهَا " يَعْنِي الْجِنْسَيْنِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْل لَا يَكُون لِآدَم وَحَوَّاء ذِكْر فِي الْآيَة ; فَإِذَا آتَاهُمَا الْوَلَد صَالِحًا سَلِيمًا سَوِيًّا كَمَا أَرَادَاهُ صَرَفَاهُ عَنْ الْفِطْرَة إِلَى الشِّرْك , فَهَذَا فِعْل الْمُشْرِكِينَ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا مِنْ مَوْلُود إِلَّا يُولَد عَلَى الْفِطْرَة - فِي رِوَايَة عَلَى هَذِهِ الْمِلَّة - أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ " . قَالَ عِكْرِمَة : لَمْ يَخُصَّ بِهَا آدَم , وَلَكِنْ جَعَلَهَا عَامَّة لِجَمِيعِ الْخَلْق بَعْد آدَم . وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : وَهَذَا أَعْجَب إِلَى أَهْل النَّظَر ; لِمَا فِي الْقَوْل الْأَوَّل مِنْ الْمُضَاف مِنْ الْعَظَائِم بِنَبِيِّ اللَّه آدَم . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَعَاصِم " شِرْكًا " عَلَى التَّوْحِيد . وَأَبُو عَمْرو وَسَائِر أَهْل الْكُوفَة بِالْجَمْعِ , عَلَى مِثْل فُعَلَاء , جَمْع شَرِيك . وَأَنْكَرَ الْأَخْفَش سَعِيد الْقِرَاءَةَ الْأُولَى , وَهِيَ صَحِيحَة عَلَى حَذْف الْمُضَاف , أَيْ جَعَلَا لَهُ ذَا شِرْك ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] فَيَرْجِع الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاء . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْحَمْل مَرَض مِنْ الْأَمْرَاض . رَوَى اِبْن الْقَاسِم وَيَحْيَى عَنْ مَالِك قَالَ : أَوَّل الْحَمْل يُسْر وَسُرُور , وَآخِره مَرَض مِنْ الْأَمْرَاض . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِك : " إِنَّهُ مَرَض مِنْ الْأَمْرَاض " يُعْطِيه ظَاهِر قَوْله : " دَعَوَا اللَّه رَبّهمَا " وَهَذِهِ الْحَالَة مُشَاهَدَة فِي الْحُمَّال , وَلِأَجْلِ عِظَم الْأَمْر وَشِدَّة الْخَطْب جُعِلَ مَوْتهَا شَهَادَة ; كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ ظَاهِر الْآيَة فَحَال الْحَامِل حَال الْمَرِيض فِي أَفْعَاله . وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْأَمْصَار أَنَّ فِعْل الْمَرِيض فِيمَا يَهَب وَيُحَابِي فِي ثُلُثه . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ : وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ فِي الْحَامِل بِحَالِ الطَّلْق , فَأَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَلَا . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَمْل عَادَة وَالْغَالِب فِيهِ السَّلَامَة . قُلْنَا : كَذَلِكَ أَكْثَر الْأَمْرَاض غَالِبه السَّلَامَة , وَقَدْ يَمُوت مَنْ لَمْ يَمْرَض . قَالَ مَالِك : إِذَا مَضَتْ لِلْحَامِلِ سِتَّة أَشْهُر مِنْ يَوْم حَمَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاء فِي مَالِهَا إِلَّا فِي الثُّلُث . وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَته وَهِيَ حَامِل طَلَاقًا بَائِنًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهَا سِتَّة أَشْهُر فَأَرَادَ اِرْتِجَاعهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا مَرِيضَة وَنِكَاح الْمَرِيضَة لَا يَصِحّ . قَالَ يَحْيَى : وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُول فِي الرَّجُل يَحْضُر الْقِتَال : إِنَّهُ إِذَا زَحَفَ فِي الصَّفّ لِلْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِي فِي مَاله شَيْئًا إِلَّا فِي الثُّلُث , وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِل وَالْمَرِيض الْمَخُوف عَلَيْهِ مَا كَانَ بِتِلْكَ الْحَال . وَيُلْتَحَق بِهَذَا الْمَحْبُوس لِلْقَتْلِ فِي قِصَاص . وَخَالَفَ فِي هَذَا أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِذَا اِسْتَوْعَبْت النَّظَر لَمْ تُرَتِّب فِي أَنَّ الْمَحْبُوس عَلَى الْقَتْل أَشَدّ حَالًا مِنْ الْمَرِيض , وَإِنْكَار ذَلِكَ غَفْلَة فِي النَّظَر ; فَإِنَّ سَبَب الْمَوْت مَوْجُود عِنْدهمَا , كَمَا أَنَّ الْمَرَض سَبَب الْمَوْت , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْت مِنْ قَبْل أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ " [ آل عِمْرَان : 143 ] . وَقَالَ رُوَيْشِد الطَّائِيّ : يَا أَيّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّته سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْت وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْت وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى : " إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقكُمْ وَمِنْ أَسْفَل مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَار وَبَلَغَتْ الْقُلُوب الْحَنَاجِر " [ الْأَحْزَاب : 10 ] . فَكَيْفَ يَقُول الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : الْحَال الشَّدِيدَة إِنَّمَا هِيَ الْمُبَارَزَة ; وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُقَاوَمَة الْعَدُوّ وَتَدَانِي الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْحَالَة الْعُظْمَى مِنْ بُلُوغ الْقُلُوب الْحَنَاجِر , وَمِنْ سُوء الظُّنُون بِاَللَّهِ , وَمِنْ زَلْزَلَة الْقُلُوب وَاضْطِرَابهَا ; هَلْ هَذِهِ حَالَة تُرَى عَلَى الْمَرِيض أَمْ لَا ؟ هَذَا مَا لَا يَشُكّ فِيهِ مُنْصِف , وَهَذَا لِمَنْ ثَبَتَ فِي اِعْتِقَاده , وَجَاهَدَ فِي اللَّه حَقَّ جِهَاده , وَشَاهَدَ الرَّسُول وَآيَاته ; فَكَيْفَ بِنَا ؟ وَقَدْ اِخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي رَاكِب الْبَحْر وَقْت الْهَوْل ; هَلْ حُكْمه حُكْم الصَّحِيح أَوْ الْحَامِل . فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : حُكْمه حُكْم الصَّحِيح . وَقَالَ اِبْن وَهْب وَأَشْهَب : حُكْمه حُكْم الْحَامِل إِذَا بَلَغَتْ سِتَّة أَشْهُر . قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد : وَقَوْلهمَا أَقْيَس ; لِأَنَّهَا حَالَة خَوْف عَلَى النَّفْس كَإِثْقَالِ الْحَمْل . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَابْن الْقَاسِم لَمْ يَرْكَب الْبَحْر , وَلَا رَأَى دُودًا عَلَى عُود . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوقِن بِاَللَّهِ أَنَّهُ الْفَاعِل وَحْده لَا فَاعِل مَعَهُ , وَأَنَّ الْأَسْبَاب ضَعِيفَة لَا تَعَلُّق لِمُوقِنٍ بِهَا , وَيَتَحَقَّق التَّوَكُّل وَالتَّفْوِيض فَلْيَرْكَبْ الْبَحْر .
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَسورة الأعراف الآية رقم 191
أَيْ أَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَقْدِر عَلَى خَلْق شَيْء .



أَيْ الْأَصْنَام مَخْلُوقَة . وَقَالَ : " يُخْلَقُونَ " بِالْوَاوِ وَالنُّون لِأَنَّهُمْ اِعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَصْنَام تَضُرّ وَتَنْفَع , فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى النَّاس ; كَقَوْلِهِ : " فِي فَلَك يَسْبَحُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : 33 ] " يَا أَيّهَا النَّمْل اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ " [ النَّمْل : 18 ] .
وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَسورة الأعراف الآية رقم 192
أَيْ إِنَّ الْأَصْنَام , لَا تَنْصُر وَلَا تَنْتَصِر .
وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَسورة الأعراف الآية رقم 193
قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ وَإِنْ تَدْعُو الْأَصْنَام إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ .



قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى : لِأَنَّهُ رَأْس آيَة . يُرِيد أَنَّهُ قَالَ : " أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ " وَلَمْ يَقُلْ أَمْ صَمَتُّمْ . وَصَامِتُونَ وَصَمَتُّمْ عِنْد سِيبَوَيْهِ وَاحِد . وَقِيلَ : الْمُرَاد مَنْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه أَنَّهُ لَا يُؤْمِن . وَقُرِئَ " لَا يَتَّبِعُوكُمْ " مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا " لُغَتَانِ بِمَعْنًى . وَقَالَ بَعْض أَهْل اللُّغَة : " أَتْبَعَهُ " - مُخَفَّفًا - إِذَا مَضَى خَلْفه وَلَمْ يُدْرِكهُ . وَ " اِتَّبَعَهُ " - مُشَدَّدًا - إِذَا مَضَى خَلْفه فَأَدْرَكَهُ .
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة الأعراف الآية رقم 194
حَاجَّهُمْ فِي عِبَادَة الْأَصْنَام . " تَدْعُونَ " تَعْبُدُونَ . وَقِيلَ : تَدْعُونَهَا آلِهَة . " مِنْ دُون اللَّه " أَيْ مِنْ غَيْر اللَّه . وَسُمِّيَتْ الْأَوْثَان عِبَادًا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَة لِلَّهِ مُسَخَّرَة . الْحَسَن : الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْنَام مَخْلُوقَة أَمْثَالُكُمْ .



وَلَمَّا اِعْتَقَدَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْأَصْنَام تَضُرّ وَتَنْفَع أَجْرَاهَا مَجْرَى النَّاس فَقَالَ : " فَادْعُوهُمْ " وَلَمْ يَقُلْ فَادْعُوهُنَّ . وَقَالَ : " عِبَاد " , وَقَالَ : " إِنَّ الَّذِينَ " وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الَّتِي . وَمَعْنَى " فَادْعُوهُمْ " أَيْ فَاطْلُبُوا مِنْهُمْ النَّفْع وَالضُّرّ .


أَنَّ عِبَادَة الْأَصْنَام تَنْفَع . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَعْنَى فَادْعُوهُمْ فَاعْبُدُوهُمْ .
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِسورة الأعراف الآية رقم 195
ثُمَّ وَبَّخَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَسَفَّهُ عُقُولَهُمْ فَقَالَ : " أَلَهُمْ أَرْجُل يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُن يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَان يَسْمَعُونَ بِهَا " أَيْ أَنْتُمْ أَفْضَل مِنْهُمْ فَكَيْف تَعْبُدُونَهُمْ . وَالْغَرَض بَيَان جَهْلِهِمْ ; لِأَنَّ الْمَعْبُود يَتَّصِف بِالْجَوَارِحِ . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر : " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه عِبَادًا أَمْثَالكُمْ " بِتَخْفِيفِ " إِنَّ " وَكَسْرهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَنَصْب " عِبَادًا " بِالتَّنْوِينِ , " أَمْثَالَكُمْ " بِالنَّصْبِ . وَالْمَعْنَى : مَا الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ , أَيْ هِيَ حِجَارَة وَخَشَب ; فَأَنْتُمْ تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ أَشْرَف مِنْهُ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذِهِ قِرَاءَة لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأ بِهَا مِنْ ثَلَاث جِهَات : أَحَدهَا : أَنَّهَا مُخَالِفَة لِلسَّوَادِ . وَالثَّانِيَة : أَنَّ سِيبَوَيْهِ يَخْتَار الرَّفْع فِي خَبَر إِنْ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى مَا , فَيَقُول : إِنْ زَيْد مُنْطَلِق ; لِأَنَّ عَمَل " مَا " ضَعِيف , وَ " إِنْ " بِمَعْنَاهَا فَهِيَ أَضْعَف مِنْهَا . وَالثَّالِثَة : أَنَّ الْكِسَائِيّ زَعَمَ أَنَّ " إِنْ " لَا تَكَاد تَأْتِي فِي كَلَام الْعَرَب بِمَعْنَى " مَا " , إِلَّا أَنْ يَكُون بَعْدهَا إِيجَاب ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " إِنْ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُور " [ الْمُلْك : 20 ] . " فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ " الْأَصْل أَنْ تَكُون اللَّام مَكْسُورَة , فَحُذِفَتْ الْكَسْرَة لِثِقَلِهَا . ثُمَّ قِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , الْمَعْنَى : فَادْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَّبِعُوكُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّهُمْ آلِهَة . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة " أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطُشُونَ بِهَا " بِضَمِّ الطَّاء , وَهِيَ لُغَة . وَالْيَد وَالرِّجْل وَالْأُذُن مُؤَنَّثَات يُصَغَّرْنَ بِالْهَاءِ . وَتُزَاد فِي الْيَد يَاء فِي التَّصْغِير , تُرَدّ إِلَى أَصْلِهَا فَيُقَال : يُدَيَّة بِالتَّشْدِيدِ لِاجْتِمَاعِ الْيَاءَيْنِ .


أَيْ الْأَصْنَام


أَنْتُمْ وَهِيَ .


أَيْ فَلَا تُؤَخِّرُونِ . وَالْأَصْل " كِيدُونِي " حُذِفَتْ الْيَاء لِأَنَّ الْكَسْرَة تَدُلّ عَلَيْهَا . وَكَذَا " فَلَا تُنْظِرُونِ " . وَالْكَيْد الْمَكْر . وَالْكَيْد الْحَرْب ; يُقَال : غَزَا فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَسورة الأعراف الآية رقم 196
أَيْ الَّذِي يَتَوَلَّى نَصْرِي وَحِفْظِي اللَّه . وَوَلِيّ الشَّيْء : الَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَمْنَع عَنْهُ الضَّرَر . وَالْكِتَاب : الْقُرْآن .


أَيْ يَحْفَظُهُمْ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْر مَرَّة يَقُول : " أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلَانًا - لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّه وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ " . وَقَالَ الْأَخْفَش : وَقُرِئَ " إِنَّ وَلِيَّ اللَّه الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَاب " يَعْنِي جِبْرِيل . النَّحَّاس . هِيَ قِرَاءَة عَاصِم الْجَحْدَرِيّ . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَبَيْن ; لِقَوْلِهِ : " وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ " .
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَسورة الأعراف الآية رقم 197
كَرَّرَهُ لَيُبَيِّنَ أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ لَا يَنْفَع وَلَا يَضُرّ .
وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَسورة الأعراف الآية رقم 198
شَرْط , وَالْجَوَاب " لَا يَسْمَعُوا " .



" وَتَرَاهُمْ " مُسْتَأْنَف . فِي مَوْضِع الْحَال . يَعْنِي الْأَصْنَام . وَمَعْنَى النَّظَر فَتْح الْعَيْنَيْنِ إِلَى الْمَنْظُور إِلَيْهِ ; وَتَرَاهُمْ كَالنَّاظِرِينَ إِلَيْك . وَخَبَر عَنْهُمْ بِالْوَاوِ وَهِيَ جَمَاد لَا تُبْصِر ; لِأَنَّ الْخَبَر جَرَى عَلَى فِعْل مَنْ يَعْقِل . وَقِيلَ : كَانَتْ لَهُمْ أَعْيُن مِنْ جَوَاهِر مَصْنُوعَة فَلِذَلِكَ قَالَ : " وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ " وَقِيلَ : الْمُرَاد بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ , أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ حِين لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَبْصَارِهِمْ . هَذِهِ الْآيَة مِنْ ثَلَاث كَلِمَات , تَضَمَّنَتْ قَوَاعِد الشَّرِيعَة فِي الْمَأْمُورَات وَالْمَنْهِيَّات .
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَسورة الأعراف الآية رقم 199
دَخَلَ فِيهِ صِلَة الْقَاطِعِينَ , وَالْعَفْو عَنْ الْمُذْنِبِينَ , وَالرِّفْق بِالْمُؤْمِنِينَ , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاق الْمُطِيعِينَ


صِلَة الْأَرْحَام , وَتَقْوَى اللَّه فِي الْحَلَال وَالْحَرَام , وَغَضّ الْأَبْصَار , وَالِاسْتِعْدَاد لِدَارِ الْقَرَار .



وَفِي قَوْله " وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ " الْحَضّ عَلَى التَّعَلُّق بِالْعِلْمِ , وَالْإِعْرَاض عَنْ أَهْل الظُّلْم , وَالتَّنَزُّه عَنْ مُنَازَعَة السُّفَهَاء , وَمُسَاوَاة الْجَهَلَة الْأَغْبِيَاء , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَخْلَاق الْحَمِيدَة وَالْأَفْعَال الرَّشِيدَة . قُلْت : هَذِهِ الْخِصَال تَحْتَاج إِلَى بَسْط , وَقَدْ جَمَعَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرِ بْن سُلَيْم . قَالَ جَابِر بْن سُلَيْم أَبُو جُرَيّ : رَكِبْت قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْت إِلَى مَكَّة فَطَلَبْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنَخْت قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِد , فَدَلُّونِي عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا هُوَ جَالِس عَلَيْهِ بُرْد مِنْ صُوف فِيهِ طَرَائِق حُمْر ; فَقُلْت : السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول اللَّه . فَقَالَ : " وَعَلَيْك السَّلَام " . فَقُلْت : إِنَّا مَعْشَر أَهْل الْبَادِيَة , قَوْم فِينَا الْجَفَاء ; فَعَلِّمْنِي كَلِمَات يَنْفَعنِي اللَّه بِهَا . قَالَ : " اُدْنُ " ثَلَاثًا , فَدَنَوْت فَقَالَ : " أَعِدْ عَلَيَّ " فَأَعَدْت عَلَيْهِ فَقَالَ : ( اِتَّقِ اللَّه وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوف شَيْئًا وَأَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ مُنْبَسِط وَأَنْ تُفْرِغ مِنْ دَلْوك فِي إِنَاء الْمُسْتَسْقِي وَإِنْ أَمْرُؤُ سَبَّكَ بِمَا لَا يَعْلَم مِنْك فَلَا تَسُبّهُ بِمَا تَعْلَم فِيهِ فَإِنَّ اللَّه جَاعِل لَك أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا وَلَا تَسُبَّن شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَك اللَّه تَعَالَى ) . قَالَ أَبُو جُرَيّ : فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , مَا سَبَبْت بَعْده شَاة وَلَا بَعِيرًا . أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْر الْبَزَّار فِي مُسْنَده بِمَعْنَاهُ . وَرَوَى أَبُو سَعِيد الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاس بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعهُمْ مِنْكُمْ بَسْط الْوَجْه وَحُسْن الْخُلُق " . وَقَالَ اِبْن الزُّبَيْر : مَا أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة إِلَّا فِي أَخْلَاق النَّاس . وَرَوَى الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر فِي قَوْله : " خُذْ الْعَفْو وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ " قَالَ : مَا أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة إِلَّا فِي أَخْلَاق النَّاس . وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ الشَّعْبِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ جِبْرِيل نَزَلَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا هَذَا يَا جِبْرِيل " ؟ فَقَالَ : " لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَل الْعَالِم " فِي رِوَايَة " لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَل رَبِّيَ " فَذَهَبَ فَمَكَثَ سَاعَة ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : " إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَأْمُرُك أَنْ تَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك وَتَصِل مَنْ قَطَعَك " . فَنَظَمَهُ بَعْض الشُّعَرَاء فَقَالَ : مَكَارِم الْأَخْلَاق فِي ثَلَاثَة مَنْ كَمُلَتْ فِيهِ فَذَلِكَ الْفَتَى إِعْطَاءُ مَنْ تَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَنْ تَقْطَعُهُ وَالْعَفْوُ عَمَّنْ اعْتَدَى وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق : أَمَرَ اللَّه نَبِيّه بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاق فِي هَذِهِ الْآيَة , وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة أَجْمَع لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاق مِنْ هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِم الْأَخْلَاق ) . وَقَالَ الشَّاعِر : كُلّ الْأُمُور تَزُول عَنْك وَتَنْقَضِي إِلَّا الثَّنَاء فَإِنَّهُ لَك بَاقِي وَلَوْ أَنَّنِي خُيِّرْت كُلّ فَضِيلَة مَا اِخْتَرْت غَيْر مَكَارِم الْأَخْلَاق وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : كَلَّمَ اللَّه مُوسَى بِطُورِ سَيْنَاء . قِيلَ لَهُ : بِأَيِّ شَيْء أَوْصَاك ؟ قَالَ : بِتِسْعَةِ أَشْيَاء , الْخَشْيَة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة , وَكَلِمَة الْحَقّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَب , وَالْقَصْد فِي الْفَقْر وَالْغِنَى , وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي , وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي , وَأَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي , وَأَنْ يَكُون نُطْقِي ذِكْرًا , وَصَمْتِي فِكْرًا , وَنَظَرِي عِبْرَة . قُلْت : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّد أَنَّهُ قَالَ ( أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ الْإِخْلَاص فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْعَدْل فِي الرِّضَا وَالْغَضَب وَالْقَصْد فِي الْغِنَى وَالْفَقْر وَأَنْ أَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنِي وَأَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي وَأَنْ يَكُون نُطْقِي ذِكْرًا وَصَمْتِي فِكْرًا وَنَظَرِي عِبْرَة ) . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " خُذْ الْعَفْو " أَيْ الزَّكَاة ; لِأَنَّهَا يَسِير مِنْ كَثِير . وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّهُ مِنْ عَفَا إِذَا دَرَسَ . وَقَدْ يُقَال : خُذْ الْعَفْو مِنْهُ , أَيْ لَا تُنْقِص عَلَيْهِ وَسَامِحْهُ . وَسَبَب النُّزُول يَرُدُّهُ , وَاَللَّه أَعْلَم . فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِمَحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ دَلَّهُ عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق , فَإِنَّهَا سَبَب جَرِّ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِيمَان . أَيْ اِقْبَلْ مِنْ النَّاس مَا عَفَا لَك مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَتَيَسَّرْ ; تَقُول : أَخَذْت حَقِّي عَفْوًا صَفْوًا , أَيْ سَهْلًا . قَوْله تَعَالَى : " وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ " أَيْ بِالْمَعْرُوفِ . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " الْعُرُف " بِضَمَّتَيْنِ ; مِثْل الْحُلُم ; وَهُمَا لُغَتَانِ . وَالْعُرْف وَالْمَعْرُوف وَالْعَارِفَة : كُلّ خَصْلَة حَسَنَة تَرْتَضِيهَا الْعُقُول , وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا النُّفُوس . قَالَ الشَّاعِر : مَنْ يَفْعَل الْخَيْر لَا يَعْدَم جَوَازِيَهُ لَا يَذْهَب الْعُرْف بَيْن اللَّه وَالنَّاس وَقَالَ عَطَاء : " وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ " يَعْنِي بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه . قَوْله تَعَالَى : " وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ " أَيْ إِذَا أَقَمْت عَلَيْهِمْ الْحُجَّة وَأَمَرْتهمْ بِالْمَعْرُوفِ فَجَهِلُوا عَلَيْك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ; صِيَانَة لَهُ عَلَيْهِمْ وَرَفْعًا لِقَدْرِهِ عَنْ مُجَاوَبَتِهِمْ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ تَأْدِيب لِجَمِيعِ خَلْقِهِ . وَقَالَ اِبْن زَيْد وَعَطَاء : هِيَ مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف . وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : هِيَ مُحْكَمَة ; وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس قَالَ : قَدِمَ عُيَيْنَة بْن حِصْن بْن حُذَيْفَة بْن بَدْر فَنَزَلَ عَلَى اِبْن أَخِيهِ الْحُرّ بْن قَيْس بْن حِصْن , وَكَانَ مِنْ النَّفَر الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَر , وَكَانَ الْقُرَّاء أَصْحَاب مَجَالِس عُمَر وَمُشَاوَرَته , كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا . فَقَالَ عُيَيْنَة لِابْنِ أَخِيهِ : يَا ابْن أَخِي , هَلْ لَك وَجْه عِنْد هَذَا الْأَمِير , فَتَسْتَأْذِن لِي عَلَيْهِ . قَالَ : سَأَسْتَأْذِنُ لَك عَلَيْهِ ; فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَة . فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ : يَا ابْن الْخَطَّاب , وَاَللَّه مَا تُعْطِينَا الْجَزْل , وَلَا تَحْكُم بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ ! قَالَ : فَغَضِبَ عُمَر حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ . فَقَالَ الْحُرّ ; يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , إِنَّ اللَّه قَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَام " خُذْ الْعَفْو وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ " وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ . فَوَاَللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَر حِين تَلَاهَا عَلَيْهِ , وَكَانَ وَقَّافًا عِنْد كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . قُلْت : فَاسْتِعْمَال عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِهَذِهِ الْآيَة وَاسْتِدْلَال الْحُرّ بِهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَة لَا مَنْسُوخَة . وَكَذَلِكَ اِسْتَعْمَلَهَا الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ . وَإِذَا كَانَ الْجَفَاء عَلَى السُّلْطَان تَعَمُّدًا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ فَلَهُ تَعْزِيرُهُ . وَإِذَا كَانَ غَيْر ذَلِكَ فَالْإِعْرَاض وَالصَّفْح وَالْعَفْو ; كَمَا فَعَلَ الْخَلِيفَة الْعَدْل .
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة الأعراف الآية رقم 200
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : " خُذْ الْعَفْو " قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : " كَيْفَ يَا رَبّ وَالْغَضَب " ؟ فَنَزَلَتْ : " وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ " وَنَزْغ الشَّيْطَان : وَسَاوِسه . وَفِيهِ لُغَتَانِ : نَزْغ وَنَغْز , يُقَال : إِيَّاكَ وَالنَّزَّاغ وَالنَّغَّاز , وَهُمْ الْمُوَرِّشُونَ . الزَّجَّاج : النَّزْغ أَدْنَى حَرَكَة تَكُون , وَمِنْ الشَّيْطَان أَدْنَى وَسْوَسَة . قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : شَهِدْت عُثْمَان وَعَلِيًّا وَكَانَ بَيْنهمَا نَزْغ مِنْ الشَّيْطَان فَمَا أَبْقَى وَاحِد مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا , ثُمَّ لَمْ يَبْرَحَا حَتَّى اِسْتَغْفَرَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ . وَمَعْنَى " يَنْزَغَنَّكَ " : يُصِيبَنَّكَ وَيَعْرِض لَك عِنْد الْغَضَب وَسْوَسَة بِمَا لَا يَحِلّ . " فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ " أَيْ اُطْلُبْ النَّجَاة مِنْ ذَلِكَ بِاَللَّهِ . فَأَمَرَ تَعَالَى أَنْ يُدْفَع الْوَسْوَسَة بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَة بِهِ ; وَلِلَّهِ الْمَثَل الْأَعْلَى . فَلَا يُسْتَعَاذ مِنْ الْكِلَاب إِلَّا بِرَبِّ الْكِلَاب . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ قَالَ لِتِلْمِيذِهِ : مَا تَصْنَع بِالشَّيْطَانِ إِذَا سَوَّلَ لَك الْخَطَايَا ؟ قَالَ : أُجَاهِدُهُ . قَالَ : فَإِنْ عَادَ ؟ قَالَ : أُجَاهِدهُ . قَالَ : فَإِنْ عَادَ ؟ قَالَ : أُجَاهِدُهُ . قَالَ : هَذَا يَطُول , أَرَأَيْت لَوْ مَرَرْت بِغَنَمٍ فَنَبَحَك كَلْبُهَا وَمَنَعَ مِنْ الْعُبُور مَا تَصْنَع ؟ قَالَ : أُكَابِدُهُ وَأَرُدُّهُ جَهْدِي . قَالَ : هَذَا يَطُول عَلَيْك , وَلَكِنْ اِسْتَغِثْ بِصَاحِبِ الْغَنَم يَكْفِهِ عَنْك . الثَّانِيَة : النَّغْز وَالنَّزْغ وَالْهَمْز وَالْوَسْوَسَة سَوَاء ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَقُلْ رَبّ أَعُوذ بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين " [ الْمُؤْمِنُونَ : 97 ] وَقَالَ : " مِنْ شَرّ الْوَسْوَاس الْخَنَّاس " [ النَّاس : 4 ] . وَأَصْل النَّزْغ الْفَسَاد ; يُقَال : نَزَغَ بَيْنَنَا ; أَيْ أَفْسَدَ . وَمِنْهُ قَوْله : " نَزَغَ الشَّيْطَان بَيْنِي وَبَيْن إِخْوَتِي " [ يُوسُف : 100 ] أَيْ أَفْسَدَ . وَقِيلَ : النَّزْغ الْإِغْوَاء وَالْإِغْرَاء ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . قُلْت : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة مَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُول لَهُ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُول لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبّك فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ) . وَفِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوَسْوَسَة قَالَ : ( تِلْكَ مَحْض الْإِيمَان ) . وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : ( ذَلِكَ صَرِيح الْإِيمَان ) وَالصَّرِيح الْخَالِص . وَهَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِره ; إِذْ لَا يَصِحّ أَنْ تَكُون الْوَسْوَسَة نَفْسهَا هِيَ الْإِيمَان , لِأَنَّ الْإِيمَان الْيَقِين , وَإِنَّمَا الْإِشَارَة إِلَى مَا وَجَدُوهُ مِنْ الْخَوْف مِنْ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُعَاقَبُوا عَلَى مَا وَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ . فَكَأَنَّهُ قَالَ جَزَعُكُمْ مِنْ هَذَا هُوَ مَحْضُ الْإِيمَان وَخَالِصُهُ ; لِصِحَّةِ إِيمَانِكُمْ , وَعِلْمكُمْ بِفَسَادِهَا . فَسَمَّى الْوَسْوَسَة إِيمَانًا لَمَّا كَانَ دَفْعُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَالرَّدُّ لَهَا وَعَدَمُ قَبُولِهَا وَالْجَزَعُ مِنْهَا صَادِرًا عَنْ الْإِيمَان . وَأَمَّا أَمْرُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ فَلِكَوْنِ تِلْكَ الْوَسَاوِس مِنْ آثَار الشَّيْطَان . وَأَمَّا الْأَمْر بِالِانْتِهَاءِ فَعَنْ الرُّكُون إِلَيْهَا وَالِالْتِفَات نَحْوهَا . فَمَنْ كَانَ صَحِيح الْإِيمَان وَاسْتَعْمَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ وَنَبِيّه نَفَعَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ . وَأَمَّا مَنْ خَالَجَتْهُ الشُّبْهَة وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْحِسّ وَلَمْ يَقْدِر عَلَى الِانْفِكَاك عَنْهَا فَلَا بُدّ مِنْ مُشَافَهَته بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيّ ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي خَالَطَتْهُ شُبْهَة الْإِبِل الْجُرْب حِين قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا عَدْوَى " . وَقَالَ أَعْرَابِيّ : فَمَا بَال الْإِبِل تَكُون فِي الرَّمْل كَأَنَّهَا الظِّبَاء فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا الْبَعِير الْأَجْرَب أَجْرَبَهَا ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل " فَاسْتَأْصَلَ الشُّبْهَة مِنْ أَصْلِهَا . فَلَمَّا يَئِسَ الشَّيْطَان مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِغْرَاءِ وَالْإِضْلَال أَخَذَ يُشَوِّش عَلَيْهِمْ أَوْقَاتهمْ بِتِلْكَ الْأَلْقَيَات . وَالْوَسَاوِس : التُّرَّهَات ; فَنَفَرَتْ عَنْهَا قُلُوبهمْ وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ وُقُوعهَا عِنْدهمْ فَجَاءُوا - كَمَا فِي الصَّحِيح - فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّا نَجِد فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَم أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : " أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ " ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : ( ذَلِكَ صَرِيح الْإِيمَان رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ حَسَب مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآن فِي قَوْله : " إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَان " [ الْحِجْر : 42 ] . فَالْخَوَاطِر الَّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَقِرَّةٍ وَلَا اِجْتَلَبَتْهَا الشُّبْهَة فَهِيَ الَّتِي تُدْفَع بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا ; وَعَلَى مِثْلهَا يُطْلَق اِسْم الْوَسْوَسَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ مَضَى فِي آخِر " الْبَقَرَة " هَذَا الْمَعْنَى , وَالْحَمْد لِلَّهِ .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَسورة الأعراف الآية رقم 201
يُرِيد الشِّرْك وَالْمَعَاصِي .


هَذِهِ قِرَاءَة أَهْل الْبَصْرَة وَأَهْل مَكَّة . وَقِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل الْكُوفَة " طَائِف " . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " طَيِّفٌ " بِتَشْدِيدِ الْيَاء . قَالَ النَّحَّاس : كَلَام الْعَرَب فِي مِثْل هَذَا " طَيْفٌ " بِالتَّخْفِيفِ ; عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر مِنْ طَافَ يَطِيف . قَالَ الْكِسَائِيّ : هُوَ مُخَفَّف مِنْ " طَيْف " مِثْل مَيِّت وَمَيْت . قَالَ النَّحَّاس : وَمَعْنَى " طَيْف " فِي اللُّغَة مَا يُتَخَيَّل فِي الْقَلْب أَوْ يُرَى فِي النَّوْم ; وَكَذَا مَعْنَى طَائِف . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : سَأَلْت الْأَصْمَعِيّ عَنْ طَيْف ; فَقَالَ : لَيْسَ فِي الْمَصَادِر فَيْعَل . قَالَ النَّحَّاس : لَيْسَ هُوَ بِمَصْدَرٍ , وَلَكِنْ يَكُون بِمَعْنَى طَائِف . وَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ اِتَّقَوْا الْمَعَاصِيَ إِذَا لَحِقَهُمْ شَيْءٌ تَفَكَّرُوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ فَتَرَكُوا الْمَعْصِيَة ; وَقِيلَ : الطَّيْف وَالطَّائِف مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ فَالْأَوَّل : التَّخَيُّل . وَالثَّانِي : الشَّيْطَان نَفْسه . فَالْأَوَّل مَصْدَر طَافَ الْخَيَال يَطُوف طَيْفًا ; وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ هَذَا طَائِف فِي اِسْم الْفَاعِل . قَالَ السُّهَيْلِيّ : لِأَنَّهُ تَخَيُّل لَا حَقِيقَة لَهُ . فَأَمَّا قَوْله : " فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِف مِنْ رَبّك " [ الْقَلَم : 19 ] فَلَا يُقَال فِيهِ : طَيْف ; لِأَنَّهُ اِسْم فَاعِل حَقِيقَة , وَيُقَال : إِنَّهُ جِبْرِيل . قَالَ الزَّجَّاج : طُفْت عَلَيْهِمْ أَطُوف , وَطَافَ الْخَيَال يَطِيف . وَقَالَ حَسَّان : فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ مُجَاهِد : الطَّيْف الْغَضَب . وَيُسَمَّى الْجُنُون وَالْغَضَب وَالْوَسْوَسَة طَيْفًا ; لِأَنَّهُ لَمَّة مِنْ الشَّيْطَان تُشَبَّهُ بِلَمَّةِ الْخَيَال .



أَيْ مُنْتَهُونَ . وَقِيلَ : فَإِذَا هُمْ عَلَى بَصِيرَة . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر : " تَذَّكَّرُوا " بِتَشْدِيدِ الذَّال . وَلَا وَجْه لَهُ فِي الْعَرَبِيَّة ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . الثَّانِيَة : قَالَ عِصَام بْن الْمُصْطَلِق : دَخَلْت الْمَدِينَة فَرَأَيْت الْحَسَن بْن عَلِيّ عَلَيْهِمَا السَّلَام , فَأَعْجَبَنِي سَمْتُهُ وَحُسْن رُوَائِهِ ; فَأَثَارَ مِنِّي الْحَسَد مَا كَانَ يُجِنُّهُ صَدْرِي لِأَبِيهِ مِنْ الْبُغْض ; فَقُلْت : أَنْتَ اِبْن أَبِي طَالِب ! قَالَ نَعَمْ . فَبَالَغْت فِي شَتْمِهِ وَشَتْمِ أَبِيهِ ; فَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةَ عَاطِفٍ رَءُوفٍ , ثُمَّ قَالَ : أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم " خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ " فَقَرَأَ إِلَى قَوْله : " فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ " ثُمَّ قَالَ لِي : خَفِّضْ عَلَيْك , أَسْتَغْفِر اللَّه لِي وَلَك إِنَّك لَوْ اِسْتَعَنْتنَا أَعَنَّاك , وَلَوْ اسْتَرْفَدْتَنَا أَرَفَدْنَاك , وَلَوْ اِسْتَرْشَدْتنَا أَرْشَدْنَاك . فَتَوَسَّمَ فِيَّ النَّدَمَ عَلَى مَا فَرَطَ مِنِّي فَقَالَ : " لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْم يَغْفِر اللَّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ " [ يُوسُف : 92 ] أَمِنْ أَهْل الشَّأْمِ أَنْتَ ؟ قُلْت نَعَمْ . فَقَالَ : شِنْشِنَة أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَم حَيَّاك اللَّهُ وَبَيَّاك , وَعَافَاك , وَآدَاك ; اِنْبَسِطْ إِلَيْنَا فِي حَوَائِجك وَمَا يَعْرِض لَك , تَجِدْنَا عِنْد أَفْضَل ظَنِّك , إِنْ شَاءَ اللَّه . قَالَ عِصَام : فَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ , وَوَدِدْت أَنَّهَا سَاخَتْ بِي ; ثُمَّ تَسَلَّلْت مِنْهُ لِوَاذًا , وَمَا عَلَى وَجْه الْأَرْض أَحَبّ إِلَيَّ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ .
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَسورة الأعراف الآية رقم 202
قِيلَ : الْمَعْنَى وَإِخْوَان الشَّيَاطِين وَهُمْ الْفُجَّار مِنْ ضُلَّال الْإِنْس تَمُدّهُمْ الشَّيَاطِين فِي الْغَيّ . وَقِيلَ لِلْفُجَّارِ إِخْوَان الشَّيَاطِين لِأَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ . وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذِهِ الْآيَة ذِكْر الشَّيْطَان . هَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ ; وَهُوَ قَوْل قَتَادَة وَالْحَسَن وَالضَّحَّاك . وَمَعْنَى " لَا يُقْصِرُونَ " أَيْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ . وَقَالَ الزَّجَّاج : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; وَالْمَعْنَى : وَاَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونه لَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسهمْ يَنْصُرُونَ , وَإِخْوَانهمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيّ ; لِأَنَّ الْكُفَّار إِخْوَان الشَّيَاطِين . وَمَعْنَى الْآيَة : إِنَّ الْمُؤْمِن إِذَا مَسَّهُ طَيْف مِنْ الشَّيْطَان تَنَبَّهَ عَنْ قُرْب ; فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَيَمُدّهُمْ الشَّيْطَان . وَ " لَا يُقْصِرُونَ " قِيلَ : يَرْجِع إِلَى الْكُفَّار عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَرْجِع إِلَى الشَّيْطَان . قَالَ قَتَادَة : الْمَعْنَى ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ عَنْهُمْ وَلَا يَرْحَمُونَهُمْ . وَالْإِقْصَار : الِانْتِهَاء عَنْ الشَّيْء , أَيْ لَا تُقْصِر الشَّيَاطِين فِي مَدّهمْ الْكُفَّار بِالْغَيِّ . وَقَوْله : " فِي الْغَيّ " يَجُوز أَنْ يَكُون مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ : " يَمُدُّونَهُمْ " وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُتَّصِلًا بِالْإِخْوَانِ . وَالْغَيّ : الْجَهْل . وَقَرَأَ نَافِع " يُمِدُّونَهُمْ " بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْمِيم . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْمِيم . وَهُمَا لُغَتَانِ مَدَّ وَأَمَدَّ . وَمَدَّ أَكْثَر , بِغَيْرِ الْأَلِف ; قَالَهُ مَكِّيّ . النَّحَّاس : وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة يُنْكِرُونَ قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة ; مِنْهُمْ أَبُو حَاتِم وَأَبُو عُبَيْد , قَالَ أَبُو حَاتِم : لَا أَعْرِف لَهَا وَجْهًا , إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَعْنَى يَزِيدُونَهُمْ فِي الْغَيّ . وَحَكَى جَمَاعَة مِنْ أَهْل اللُّغَة مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْد أَنَّهُ يُقَال إِذَا كَثَّرَ شَيْء شَيْئًا بِنَفْسِهِ مَدَّهُ , وَإِذَا كَثَّرَهُ بِغَيْرِهِ قِيلَ أَمَدَّهُ ; نَحْو " يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُسَوَّمِينَ " [ آل عِمْرَان : 125 ] . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ اِحْتَجَّ لِقِرَاءَةِ أَهْل الْمَدِينَة قَالَ : يُقَال مَدَدْت لَهُ فِي كَذَا أَيْ زَيَّنْته لَهُ وَاسْتَدْعَيْته أَنْ يَفْعَلهُ . وَأَمْدَدْته فِي كَذَا أَيْ أَعَنْته بِرَأْيٍ أَوْ غَيْر ذَلِكَ . قَالَ مَكِّيّ : وَالِاخْتِيَار الْفَتْح ; لِأَنَّهُ يُقَال : مَدَدْت فِي الشَّرّ , وَأَمْدَدْت فِي الْخَيْر ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ " [ الْبَقَرَة : 15 ] . فَهَذَا يَدُلّ عَلَى قُوَّة الْفَتْح فِي هَذَا الْحَرْف ; لِأَنَّهُ فِي الشَّرّ , وَالْغَيّ هُوَ الشَّرّ , وَلِأَنَّ الْجَمَاعَة عَلَيْهِ . وَقَرَأَ عَاصِم الْجَحْدَرِيّ " يُمَادُّونَهُمْ فِي الْغَيّ " . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " يَقْصُرُونَ " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الصَّاد وَتَخْفِيف الْقَاف . الْبَاقُونَ " يُقْصِرُونَ " بِضَمِّهِ , وَهُمَا لُغَتَانِ . قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : سَمَا لَك شَوْقٌ بَعْد مَا كَانَ أَقْصَرَا
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَسورة الأعراف الآية رقم 203
أَيْ تَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ .


لَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا , وَلَا يَلِيهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْفِعْل ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهَا فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى وَمَعْنَى " اِجْتَبَيْتهَا " اِخْتَلَقْتهَا مِنْ نَفْسك . فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْآيَات مِنْ قِبَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَأَنَّهُ لَا يَقْرَأ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ . يُقَال : اِجْتَبَيْت الْكَلَام أَيْ اِرْتَجَلْته وَاخْتَلَقْته وَاخْتَرَعْته إِذَا جِئْت بِهِ مِنْ عِنْد نَفْسك .


أَيْ مِنْ عِنْد اللَّه لَا مِنْ عِنْد نَفْسِي .


يَعْنِي الْقُرْآن , جَمْع بَصِيرَة , هِيَ الدَّلَالَة وَالْعِبْرَة . أَيْ هَذَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَاحِد . بَصَائِر , أَيْ يُسْتَبْصَر بِهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : " بَصَائِر " أَيْ طُرُق . وَالْبَصَائِر طُرُق الدِّين . قَالَ الْجُعْفِيّ : رَاحُوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ وَبَصِيرَتِي يَعْدُو بِهَا عَتِد وَأَي " وَهُدًى " رُشْد وَبَيَان . " وَرَحْمَة " أَيْ وَنِعْمَة .
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَسورة الأعراف الآية رقم 204
قِيلَ : إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي الصَّلَاة , رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر وَالزَّهْرِيّ وَعُبَيْد اللَّه بْن عُمَيْر وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب . قَالَ سَعِيد : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى ; فَيَقُول بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَكَّة : " لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ " [ فُصِّلَتْ : 26 ] . فَأَنْزَلَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ جَوَابًا لَهُمْ " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا " . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَة ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَعَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار وَزَيْد بْن أَسْلَم وَالْقَاسِم بْن مُخَيْمِرَة وَمُسْلِم بْن يَسَار وَشَهْر بْن حَوْشَب وَعَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك . وَهَذَا ضَعِيف ; لِأَنَّ الْقُرْآن فِيهَا قَلِيل , وَالْإِنْصَات يَجِب فِي جَمِيعهَا ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . النَّقَّاش : وَالْآيَة مَكِّيَّة , وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّة خُطْبَة وَلَا جُمُعَة . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَيْضًا أَنَّ هَذَا فِي الْإِنْصَات يَوْم الْأَضْحَى وَيَوْم الْفِطْر وَيَوْم الْجُمُعَة , وَفِيمَا يَجْهَر بِهِ الْإِمَام فَهُوَ عَامٌّ . وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ يَجْمَع جَمِيع مَا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ الْآيَة وَغَيْرهَا مِنْ السُّنَّة فِي الْإِنْصَات . قَالَ النَّقَّاش : أَجْمَعَ أَهْل التَّفْسِير أَنَّ هَذَا الِاسْتِمَاع فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة وَغَيْر الْمَكْتُوبَة . النَّحَّاس : وَفِي اللُّغَة يَجِب أَنْ يَكُون فِي كُلّ شَيْء , إِلَّا أَنْ يَدُلّ دَلِيل عَلَى اِخْتِصَاص شَيْء . وَقَالَ الزَّجَّاج : يَجُوز أَنْ يَكُون " فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا " اِعْمَلُوا بِمَا فِيهِ وَلَا تُجَاوِزُوهُ . وَالْإِنْصَات : السُّكُوت لِلِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاء وَالْمُرَاعَاة . أَنْصَتَ يُنْصِت إِنْصَاتًا ; وَنَصَتَ أَيْضًا ; قَالَ الشَّاعِر : قَالَ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ أَمْرُ سَيِّدِكُمْ فَلَمْ نُخَالِفْ وَأَنْصَتْنَا كَمَا قَالَا وَيُقَال : أَنْصِتُوهُ وَأَنْصِتُوا لَهُ ; قَالَ الشَّاعِر : إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَأَنْصِتُوهَا فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْله " فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا " : كَانَ هَذَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصًّا لِيَعِيَهُ عَنْهُ أَصْحَابه . قُلْت : هَذَا فِيهِ بُعْد , وَالصَّحِيح الْقَوْل بِالْعُمُومِ ; لِقَوْلِهِ : " لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " وَالتَّخْصِيص يَحْتَاج إِلَى دَلِيل . وَقَالَ عَبْد الْجَبَّار بْن أَحْمَد فِي فَوَائِد الْقُرْآن لَهُ : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَط وَالشَّغَب تَعَنُّتًا وَعِنَادًا ; عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّه عَنْهُمْ : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ " [ فُصِّلَتْ : 26 ] . فَأَمَرَ اللَّه الْمُسْلِمِينَ حَالَة أَدَاء الْوَحْي أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِلَاف هَذِهِ الْحَالَة وَأَنْ يَسْتَمِعُوا , وَمَدَحَ الْجِنّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْك نَفَرًا مِنْ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآن " [ الْأَحْقَاف : 29 ] الْآيَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ فِي الصَّلَاة أَجَابَهُ مَنْ وَرَاءَهُ ; إِذَا قَالَ : بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم , قَالُوا مِثْل قَوْله , حَتَّى يَقْضِي فَاتِحَة الْكِتَاب وَالسُّورَة . فَلَبِثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَلْبَث ; فَنَزَلَ : " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " فَأَنْصِتُوا . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى بِالْإِنْصَاتِ تَرْك الْجَهْر عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ مُجَاوَبَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ قَتَادَة فِي هَذِهِ الْآيَة : كَانَ الرَّجُل يَأْتِي وَهُمْ فِي الصَّلَاة فَيَسْأَلهُمْ كَمْ صَلَّيْتُمْ , كَمْ بَقِيَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا " . وَعَنْ مُجَاهِد هَذَا أَيْضًا : كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاة بِحَاجَتِهِمْ ; فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : " لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " . وَقَدْ مَضَى فِي الْفَاتِحَة الِاخْتِلَاف فِي قِرَاءَة الْمَأْمُوم خَلْف الْإِمَام . وَيَأْتِي فِي " الْجُمُعَة " حُكْم الْخُطْبَة , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَسورة الأعراف الآية رقم 205
نَظِيره " اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة " [ الْأَعْرَاف : 55 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَلَمْ يُخْتَلَف فِي مَعْنَى " وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسك " أَنَّهُ فِي الدُّعَاء . قُلْت : قَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ يَعْنِي بِالذِّكْرِ الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى اِقْرَأْ الْقُرْآن بِتَأَمُّلٍ وَتَدَبُّر . " تَضَرُّعًا " مَصْدَر , وَقَدْ يَكُون فِي مَوْضِع الْحَال . " وَخِيفَة " مَعْطُوف عَلَيْهِ . وَجَمْع خِيفَة خِوَف ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَوْف ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَأَصْل خِيفَة خِوْفَة , قُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا . خَافَ الرَّجُل يَخَاف خَوْفًا وَخِيفَة وَمَخَافَة , فَهُوَ خَائِف , وَقَوْم خُوَّف عَلَى الْأَصْل , وَخُيَّف عَلَى اللَّفْظ . وَحَكَى الْفَرَّاء أَنَّهُ يُقَال أَيْضًا فِي جَمْع خِيفَة خِيَف . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْخِيفَة الْخَوْف , وَالْجَمْع خِيَف , وَأَصْله الْوَاو .



أَيْ دُون الرَّفْع فِي الْقَوْل . أَيْ أَسْمِعْ نَفْسك ; كَمَا قَالَ : " وَابْتَغِ بَيْن ذَلِكَ سَبِيلًا " [ الْإِسْرَاء : 110 ] أَيْ بَيْن الْجَهْر وَالْمُخَافَتَة . وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ رَفْع الصَّوْت بِالذِّكْرِ مَمْنُوع . عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع


قَالَ قَتَادَة وَابْن زَيْد : الْآصَال الْعَشِيَّات . وَالْغُدُوّ جَمْع غَدْوَة . وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَز " بِالْغُدُوِّ وَالْإِيصَال " وَهُوَ مَصْدَر آصَلْنَا , أَيْ دَخَلْنَا فِي الْعَشِيّ . وَالْآصَال جَمْع أُصُل ; مِثْل طُنُب وَأَطْنَاب ; فَهُوَ جَمْع الْجَمْع , وَالْوَاحِد أَصِيل , جُمِعَ عَلَى أُصُل ; عَنْ الزَّجَّاج . الْأَخْفَش : الْآصَال جَمْع أَصِيل ; مِثْل يَمِين وَأَيْمَان . الْفَرَّاء : أُصُل جَمْع أَصِيل , وَقَدْ يَكُون أُصُل وَاحِدًا , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَلَا بِأَحْسَن مِنْهَا إِذْ دَنَا الْأُصُل الْجَوْهَرِيّ : الْأَصِيل الْوَقْت بَعْد الْعَصْر إِلَى الْمَغْرِب , وَجَمْعه أُصُل وَآصَال وَأَصَائِل ; كَأَنَّهُ جَمْع أَصِيلَة ; قَالَ الشَّاعِر : لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْت أُكْرِمُ أَهْلَهُ وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ وَيُجْمَع أَيْضًا عَلَى أُصْلَان ; مِثْل بَعِير وَبُعْرَان ; ثُمَّ صَغَّرُوا الْجَمْع فَقَالُوا أُصَيْلَان , ثُمَّ أَبْدَلُوا مِنْ النُّون لَامًا فَقَالُوا أُصَيْلَال ; وَمِنْهُ قَوْل النَّابِغَة : وَقَفْت فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَد وَحَكَى اللِّحْيَانِيّ : لَقِيته أُصَيْلَالًا .


أَيْ عَنْ الذِّكْر .
إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَسورة الأعراف الآية رقم 206
فِيهِ ثَمَان مَسَائِل : الْأُولَى : " إِنَّ الَّذِينَ عِنْد رَبّك " يَعْنِي الْمَلَائِكَة بِإِجْمَاعٍ . وَقَالَ : " عِنْد رَبّك " وَاَللَّه تَعَالَى بِكُلِّ مَكَان لِأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ رَحْمَته , وَكُلّ قَرِيب مِنْ رَحْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ عِنْده ; عَنْ الزَّجَّاج . وَقَالَ غَيْره لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِع لَا يَنْفُذ فِيهِ إِلَّا حُكْم اللَّه . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ رُسُل اللَّه ; كَمَا يُقَال : عِنْد الْخَلِيفَة جَيْش كَثِير . وَقِيلَ : هَذَا عَلَى جِهَة التَّشْرِيف لَهُمْ , وَأَنَّهُمْ بِالْمَكَانِ الْمُكَرَّم ; فَهُوَ عِبَارَة عَنْ قُرْبِهِمْ فِي الْكَرَامَة لَا فِي الْمَسَافَة . " وَيُسَبِّحُونَهُ " أَيْ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلّ سُوء . " وَلَهُ يَسْجُدُونَ " قِيلَ : يُصَلُّونَ . وَقِيلَ : يَذِلُّونَ , خِلَاف أَهْل الْمَعَاصِي . الثَّانِيَة : وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء فِي أَنَّ هَذَا مَوْضِع سُجُود لِلْقَارِئِ . وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي عَدَد سُجُود الْقُرْآن ; فَأَقْصَى مَا قِيلَ : خَمْس عَشْرَة . أَوَّلهَا خَاتِمَة الْأَعْرَاف , وَآخِرهَا خَ اتِمَة الْعَلَق . وَهُوَ قَوْل اِبْن حَبِيب وَابْن وَهْب - فِي رِوَايَة - وَإِسْحَاق . وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ زَادَ سَجْدَة الْحِجْر قَوْله تَعَالَى : " وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ " [ الْحِجْر : 98 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَعَلَى هَذَا تَكُون سِتّ عَشْرَة . وَقِيلَ : أَرْبَع عَشْرَة ; قَالَهُ اِبْن وَهْب فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَنْهُ . فَأَسْقَطَ ثَانِيَةَ الْحَجِّ . وَهُوَ قَوْل أَصْحَاب الرَّأْي وَالصَّحِيح سُقُوطهَا ; لِأَنَّ الْحَدِيث لَمْ يَصِحّ بِثُبُوتِهَا . وَرَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِمَا عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُنَيْن مِنْ بَنِي عَبْد كُلَال عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْس عَشْرَة سَجْدَة فِي الْقُرْآن ; مِنْهَا ثَلَاث فِي الْمُفَصَّل , وَفِي الْحَجّ سَجْدَتَانِ . وَعَبْد اللَّه بْن مُنَيْن لَا يُحْتَجُّ بِهِ ; قَالَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر قَالَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , أَفِي سُورَة الْحَجّ سَجْدَتَانِ ؟ . قَالَ : " نَعَمْ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأهُمَا " . فِي إِسْنَاده عَبْد اللَّه بْن لَهِيعَة , وَهُوَ ضَعِيف جِدًّا . وَأَثْبَتَهُمَا الشَّافِعِيّ وَأَسْقَطَ سَجْدَة ص . وَقِيلَ : إِحْدَى عَشْرَة سَجْدَة , وَأَسْقَطَ آخِرَة الْحَجّ وَثَلَاث الْمُفَصَّل . وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالِك . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَغَيْرهمْ . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : سَجَدْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَة سَجْدَة لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْمُفَصَّل شَيْء , الْأَعْرَاف وَالرَّعْد وَالنَّحْل وَبَنِي إِسْرَائِيل وَمَرْيَم وَالْحَجّ سَجْدَة وَالْفُرْقَان وَسُلَيْمَان سُورَة النَّمْل وَالسَّجْدَة وَص وَسَجْدَة الْحَوَامِيم . وَقِيلَ : عَشْر , وَأُسْقِطَ آخِرَة الْحَجّ وَص وَثَلَاث الْمُفَصَّل ; ذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : إِنَّهَا أَرْبَع , سَجْدَة الم تَنْزِيل وَ " حم " تَنْزِيل وَالنَّجْم وَالْعَلَق . وَسَبَب الْخِلَاف اِخْتِلَاف النَّقْل فِي الْأَحَادِيث وَالْعَمَل , وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَمْر الْمُجَرَّد بِالسُّجُودِ فِي الْقُرْآن , هَلْ الْمُرَاد بِهِ سُجُود التِّلَاوَة أَوْ سُجُود الْفَرْض فِي الصَّلَاة ؟ الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوب سُجُود التِّلَاوَة ; فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : هُوَ وَاجِب . وَتَعَلَّقَ بِأَنَّ مُطْلَق الْأَمْر بِالسُّجُودِ عَلَى الْوُجُوب , وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : " إِذَا قَرَأَ اِبْن آدَم سَجْدَة فَسَجَدَ اِعْتَزَلَ الشَّيْطَان يَبْكِي يَقُول يَا وَيْلَهُ " . وَفِي رِوَايَة أَبِي كُرَيْب " يَا وَيْلِي " , وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيس لَعَنَهُ اللَّه : " أُمِرَ اِبْن آدَم بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّة وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِيَ النَّار " . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَافِظ عَلَيْهِ . وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى حَدِيث عُمَر الثَّابِت - خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ - أَنَّهُ قَرَأَ آيَة سَجْدَة عَلَى الْمِنْبَر فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاس مَعَهُ , ثُمَّ قَرَأَهَا فِي الْجُمُعَة الْأُخْرَى فَتَهَيَّأَ النَّاس لِلسُّجُودِ , فَقَالَ : " أَيّهَا النَّاس عَلَى رِسْلِكُمْ ! إِنَّ اللَّه لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ " . وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مِنْ الْأَنْصَار وَالْمُهَاجِرِينَ . فَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ أَحَد فَثَبَتَ الْإِجْمَاع بِهِ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْله : " أُمِرَ اِبْن آدَم بِالسُّجُودِ " فَإِخْبَار عَنْ السُّجُود الْوَاجِب . وَمُوَاظَبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلّ عَلَى الِاسْتِحْبَاب ! وَاَللَّه أَعْلَم . الرَّابِعَة : وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ سُجُود الْقُرْآن يَحْتَاج إِلَى مَا تَحْتَاج إِلَيْهِ الصَّلَاة مِنْ طَهَارَة حَدَث وَنَجَس وَنِيَّة وَاسْتِقْبَال قِبْلَة وَوَقْت . إِلَّا مَا ذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَسْجُد عَلَى غَيْر طَهَارَة . وَذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ الشَّعْبِيّ . وَعَلَى قَوْل الْجُمْهُور هَلْ يَحْتَاج إِلَى تَحْرِيم وَرَفْع يَدَيْنِ عِنْده وَتَكْبِير وَتَسْلِيم ؟ اِخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ ; فَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق إِلَى أَنَّهُ يُكَبِّر وَيَرْفَع لِلتَّكْبِيرِ لَهَا . وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَر عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ , وَكَذَلِكَ إِذَا رَفَعَ كَبَّرَ . وَمَشْهُور مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ يُكَبِّر لَهَا فِي الْخَفْض وَالرَّفْع فِي الصَّلَاة . وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّكْبِير لَهَا فِي غَيْر الصَّلَاة ; وَبِالتَّكْبِيرِ لِذَلِكَ قَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء , وَلَا سَلَام لَهَا عِنْد الْجُمْهُور . وَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف وَإِسْحَاق إِلَى أَنَّهُ يُسَلِّم مِنْهَا . وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَب يَتَحَقَّق أَنَّ التَّكْبِير فِي أَوَّلهَا لِلْإِحْرَامِ . وَعَلَى قَوْل مَنْ لَا يُسَلِّم يَكُون لِلسُّجُودِ فَحَسْب . وَالْأَوَّل أَوْلَى ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : " مِفْتَاح الصَّلَاة الطَّهُور وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِير وَتَحْلِيلهَا التَّسْلِيم " وَهَذِهِ عِبَادَة لَهَا تَكْبِير , فَكَانَ لَهَا تَحْلِيل كَصَلَاةِ الْجِنَازَة بَلْ أَوْلَى , لِأَنَّهَا فِعْل وَصَلَاة الْجِنَازَة قَوْل . وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن الْعَرَبِيّ . الْخَامِسَة : وَأَمَّا وَقْته فَقِيلَ : يَسْجُد فِي سَائِر الْأَوْقَات مُطْلَقًا ; لِأَنَّهَا صَلَاة لِسَبَبٍ . وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة . وَقِيلَ : مَا لَمْ يُسْفِر الصُّبْح , أَوْ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْس بَعْد الْعَصْر . وَقِيلَ : لَا يَسْجُد بَعْد الصُّبْح وَلَا بَعْد الْعَصْر . وَقِيلَ : يَسْجُد بَعْد الصُّبْح وَلَا يَسْجُد بَعْد الْعَصْر . وَهَذِهِ الثَّلَاثَة الْأَقْوَال فِي مَذْهَبنَا . وَسَبَب الْخِلَاف مُعَارَضَة مَا يَقْتَضِيه سَبَب قِرَاءَة السَّجْدَة مِنْ السُّجُود الْمُرَتَّب عَلَيْهَا لِعُمُومِ النَّهْي عَنْ الصَّلَاة بَعْد الْعَصْر وَبَعْد الصُّبْح . وَاخْتِلَافهمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاة فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ , وَاَللَّه أَعْلَم . السَّادِسَة : فَإِذَا سَجَدَ يَقُول فِي سُجُوده : اللَّهُمَّ اُحْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا , وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا , وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدك ذُخْرًا . رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; ذَكَرَهُ اِبْن مَاجَهْ . السَّابِعَة : فَإِنْ قَرَأَهَا فِي صَلَاة , فَإِنْ كَانَ فِي نَافِلَة سَجَدَ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَة وَأَمِنَ التَّخْلِيط فِيهَا . وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَة لَا يَأْمَن ذَلِكَ فِيهَا فَالْمَنْصُوص جَوَازُهُ . وَقِيلَ : لَا يَسْجُد . وَأَمَّا فِي الْفَرِيضَة فَالْمَشْهُور عَنْ مَالِك النَّهْي عَنْهُ فِيهَا , سَوَاء كَانَتْ صَلَاةَ سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ , جَمَاعَة أَوْ فُرَادَى . وَهُوَ مُعَلَّل بِكَوْنِهَا زِيَادَة فِي أَعْدَاد سُجُود الْفَرِيضَة . وَقِيلَ : مُعَلَّل بِخَوْفِ التَّخْلِيط عَلَى الْجَمَاعَة ; وَهَذَا أَشْبَه . وَعَلَى هَذَا لَا يُمْنَع مِنْهُ الْفُرَادَى وَلَا الْجَمَاعَة الَّتِي يَأْمَن فِيهَا التَّخْلِيط . الثَّامِنَة : رَوَى , الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي رَافِع قَالَ : صَلَّيْت مَعَ أَبِي هُرَيْرَة الْعَتَمَة , فَقَرَأَ " إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ " [ الِانْشِقَاق : 1 ] فَسَجَدَ ; فَقُلْت : مَا هَذِهِ ؟ قَالَ : سَجَدْت بِهَا خَلْف أَبِي الْقَاسِم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَا أَزَالَ أَسْجُد فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ . اِنْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ . وَفِيهِ : " وَقِيلَ لِعِمْرَان بْن حُصَيْن : الرَّجُل يَسْمَع السَّجْدَة وَلَمْ يَجْلِس لَهَا ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ قَعَدَ لَهَا ! كَأَنَّهُ لَا يُوجِبهُ عَلَيْهِ . وَقَالَ سَلْمَان : مَا لِهَذَا غَدَوْنَا . وَقَالَ عُثْمَان : إِنَّمَا السَّجْدَة عَلَى مَنْ اِسْتَمَعَهَا . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : لَا يَسْجُد إِلَّا أَنْ يَكُون طَاهِرًا , فَإِذَا سَجَدْت وَأَنْتَ فِي حَضَر فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَة , فَإِنْ كُنْت رَاكِبًا فَلَا عَلَيْك , حَيْثُ كَانَ وَجْهك . وَكَانَ السَّائِب لَا يَسْجُد لِسُجُود الْقَاصّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7