الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة التوبة الآية رقم 91
لما ذكر المعتذرين, وكانوا على قسمين, قسم معذور في الشرع, وقسم غير معذور, ذكر ذلك بقوله: " لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ " في أبدانهم وأبصارهم, الذين لا قوة لهم على الخروج والقتال.
" وَلَا عَلَى الْمَرْضَى " وهذا شامل لجميع أنواع المرض, الذي لا يقدر صاحبه على الخروج والجهاد, من عرج, وعمى, وحمى ذات الجنب, والفالج, وغير ذلك.
وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَسورة التوبة الآية رقم 92
" وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ " أي: لا يجدون زادا, ولا راحلة يتبلغون بها في سفرهم.
فهؤلاء, ليس عليهم حرج, بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله, بأن يكونوا صادقي الإيمان, وأن يكون من نيتهم, وعزمهم, أنهم لو قدروا لجاهدوا, وأن يفعلوا ما يقدرون عليه, من الحث, والترغيب, والتشجيع على الجهاد.
" مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ " أي: من سبيل يكون عليهم فيه تبعة, فإنهم - بإحسانهم, فيما عليهم من حقوق اللّه وحقوق العباد - أسقطوا توجه اللوم عليهم.
وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه, سقط عنه ما لا يقدر عليه.
ويستدل بهذه الآية على قاعدة.
وهي: أن من أحسن على غيره, في نفسه, أو في ماله, ونحو ذلك, ثم ترتب على إحسانه, نقص أو تلف, أنه غير ضامن لأنه محسن, ولا سبيل على المحسنين.
كما أنه يدل, على أن غير المحسن - وهو المسيء - كالمفرط; أن عليه الضمان.
" وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " ومن مغفرته ورحمته, عفا عن العاجزين, وأثابهم بنيتهم الجازمة, ثواب القادرين الفاعلين.
" وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ " فلم يصادفوا عندك شيئا " قُلْتَ " لهم معتذرا " لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ " فإنهم عاجزون, باذلون لأنفسهم, وقد صدر منهم من الحزن والمشقة, ما ذكره اللّه عنهم.
فهؤلاء لا حرج عليهم, وإذا سقط الحرج عنهم, عاد الأمر إلى أصله, وهو.
أن من نوى الخير, واقترن بنيته الجازمة, سَعْيٌ فيما يقدر عليه, ثم لم يقدر, فإنه ينزل منزلة الفاعل التام.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَسورة التوبة الآية رقم 93
" إِنَّمَا السَّبِيلُ " يتوجه واللوم يتأكد " عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ " قادرون على الخروج, ولا عذر لهم.
فهؤلاء " رَضُوا " لأنفسهم ومن دينهم " بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ " كالنساء والأطفال ونحوهم.
وإنما رضوا بهذه الحال لأن اللّه " وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ " أي.
ختم عليها, فلا يدخلها خير, ولا يحسون بمصالحهم الدينية والدنيوية.
" فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " عقوبة لهم, على اقترفوا.
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة التوبة الآية رقم 94
لما ذكر تخلف المنافقين الأغنياء, وأنهم لا عذر لهم, أخبر أنهم سوف " يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ " من غزاتكم.
" قُلْ " لهم " لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ " أي: لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب.
" قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ " وهو الصادق في قيله, فلم يبق للاعتذار فائدة, لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر اللّه عنهم, ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي, هو أعلى مراتب الصدق.
" وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ " في الدنيا, لأن العمل هو ميزان الصدق من الكذب.
وأما مجرد الأقوال, فلا دلالة فيها على شيء من ذلك.
" ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ " الذي لا تخفى عليه خافية.
" فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " من خير وشر, ويجازيكم بعدله أو بفضله, من غير أن يظلمكم مثقال ذرة.
وأعلم أن المسيء المذنب له ثلاث حالات.
إما أن يقبل قوله وعذره, ظاهرا وباطنا, ويعفى عنه, بحيث يبقى كأنه لم يذنب.
وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي, على ذنبهم.
وإما أن يعرض عنهم, ولا يقابلوا بما فعلوا, بالعقوبة الفعلية.
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَسورة التوبة الآية رقم 95
وهذه الحال الثالثة, هي التي أمر اللّه بها في حق المنافقين.
ولهذا قال: " سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ " .
أي: لا توبخوهم, ولا تجلدوهم أو تقتلوهم.
" إِنَّهُمْ رِجْسٌ " أي: إنهم قذر خبثاء, ليسوا بأهل لأن يبالى بهم, وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم.
ويكفيهم أن " وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " .
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَسورة التوبة الآية رقم 96
وقوله: " يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ " أي: ولهم أيضا هذا المقصد الآخر منكم, غير مجرد الإعراض, بل يحبون أن ترضوا عنهم, كأنهم ما فعلوا شيئا.
" فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ " أي: فلا ينبغي لكم - أيها المؤمنون - أن ترضوا عن من لم يرض اللّه عنه, بل عليكم أن توافقوا ربكم, في رضاه وغضبه.
وتأمل كيف قال: " فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ " ولم يقل " فإن اللّه لا يرضى عنهم " ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح, وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم, فإن اللّه يتوب عليهم, ويرضى عنهم.
وأما ما داموا فاسقين, فإن اللّه لا يرضى عليهم, لوجود المانع من رضاه.
وهو: خروجهم عن ما رضيه اللّه لهم, من الإيمان والطاعة, إلى ما يغضبه من الشرك, والنفاق, والمعاصي.
وحاصل ما ذكره اللّه, أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد, من غير عذر, إذا اعتذروا للمؤمنين, وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم, فإن المنافقين يريدون بذلك, أن تعرضوا عنهم, وترضوا, وتقبلوا عذرهم.
فأما قبول العذر منهم, والرضا عنهم, فلا حبا, ولا كرامة لهم.
وأما الإعراض عنهم, فيعرض المؤمنون عنهم, إعراضهم عن الأمور الردية والرجس.
وفي هذه الآيات, إثبات الكلام للّه تعالى في قوله " قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ " .
وإثبات الأفعال الاختيارية للّه, الواقعة بمشيئته تعالى وقدرته, في هذا, وفي قوله: " وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ " أخبر أنه سيراه بعد وقوعه.
وفيها إثبات الرضا للّه عن المحسنين, والغضب والسخط, على الفاسقين.
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة التوبة الآية رقم 97
يقول تعالى " الْأَعْرَابِ " وهم سكان البادية والبراري " أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا " من الحاضرة, الذين فيهم كفر ونفاق, وذلك لأسباب كثيرة.
منها: أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية, والأعمال والأحكام.
فهم أحرى " وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ " من أصول الإيمان, وأحكام الأوامر والنواهي.
بخلاف الحاضرة, فإنهم أقرب, لأن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله, فيحدث لهم - بسبب هذا العلم - تصورات حسنة, وإرادات للخير, الذي يعلمون منه, ما لا يكون في البادية.
وفيهم من لطافة الطبع, والانقياد للداعي, ما ليس في البادية.
ويجالسون أهل الإيمان, ويخالطونهم أكثر من أهل البادية.
فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية, وإن كان في البادية والحاضرة, كفار ومنافقون, ففي البادية أشد وأغلظ, مما في الحاضرة.
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة التوبة الآية رقم 98
ومن ذلك, أن الأعراب أحرص على الأموال, وأشح فيها.
فمنهم " مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ " من الزكاة والنفقة في سبيل اللّه وغير ذلك.
" مَغْرَمًا " أي: يراها خسارة ونقصا, لا يحتسب فيها, ولا يريد بها وجه اللّه, ولا يكاد يؤديها إلا كرها.
" وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ " أي: من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم, أنهم يودون وينتظرون فيهم, دوائر الدهر, وفجائع الزمان.
وهذا سينعكس عليهم فتكون " عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ " .
وأما المؤمنون, فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم, ولهم العقبى الحسنة.
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " يعلم نيات العباد, وما صدرت عنه الأعمال, من إخلاص وغيره وليس الأعراب كلهم مذمومين.
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة التوبة الآية رقم 99
بل منهم " مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فيسلم بذلك من الكفر والنفاق ويعمل بمقتضى الإيمان.
" وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ " أي: يحتسب نفقته, ويقصد بها وجه اللّه تعالى, والقرب منه ويجعلها وسيلة إلى " وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ " أي: دعائه لهم, وتبريكه عليهم.
قال تعالى - مبينا لنفع صلوات الرسول: " أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ " تقربهم إلى اللّه, وتنمي أموالهم, وتحل فيها البركة.
" سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ " في جملة عباده الصالحين " إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " .
فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه, ويعم عباده برحمته, التي وسعت كل شيء, ويخص عباده المؤمنين, برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات, ويحميهم فيها من المخالفات, ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات.
وفي هذه الآية, دليل على أن الأعراب, كأهل الحاضرة, منهم الممدوح ومنهم المذموم.
فلم يذمهم اللّه, على مجرد تعربهم وباديتهم, إنما ذمهم, على ترك أوامر اللّه, وأنهم في مظنة ذلك.
ومنها: أن الكفر والنفاق, يزيد وينقص, ويغلظ ويخف, بحسب الأحوال.
ومنها: فضيلة العلم, وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه, لأن اللّه ذم الأعراب, وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا, وذكر السبب الموجب لذلك, وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله.
ومنها: أن العلم النافع, الذي هو أنفع العلوم, معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله, من أصول الدين وفروعه, كمعرفة حدود الإيمان, والإسلام, والإحسان, والتقوى, والفلاح, والطاعة, والبر, والصلة, والإحسان, والكفر, والنفاق, والفسوق, والعصيان, والزنا, والخمر, والربا, ونحو ذلك.
فإن في معرفتها, يتمكن العارف من فعلها, إن كانت مأمورا بها, أو تركها, إن كانت محظورة ومن الأمر بها أو النهي عنها.
ومنها: أنه ينبغي للمؤمن, أن يؤدي ما عليه من الحقوق, منشرح الصدر, مطمئن النفس, ويحرص أن تكون مغنما, ولا تكون مغرما.
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُسورة التوبة الآية رقم 100
" وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ " هم: الذين سبقوا هذة الأمة وبدورها للإيمان والهجرة, والجهاد, وإقامة دين اللّه.
" مِنَ الْمُهَاجِرِينَ " الذين, أخرجوا من ديارهم وأموالهم, يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا, وينصرون اللّه ورسوله, أولئك هم الصادقون.
ومن " وَالْأَنْصَارِ " الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم, يحبون من هاجر إليهم, ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا, ويؤثرون على أنفسهم, ولو كان بهم خصاصة.
" وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ " بالاعتقادات, والأقوال, والأعمال.
فهؤلاء, هم الذين سلموا من الذم, وحصل لهم نهاية المدح, وأفضل الكرامات من اللّه.
" رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " ورضاه تعالى, أكبر من نعيم الجنة.
" وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ " الجارية, التي تساق إلى سَقْيِ الجنان, والحدائق الزاهية الزاهرة, والرياض الفاخرة.
" خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا " لا يبغون عنها حولا, ولا يطلبون منها بدلا.
لأنهم مهما تمنوه, أدركوه, ومهما أرادوه, وجدوه.
" ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " الذي حصل لهم فيه, كل محبوب للنفوس, ولذة للأرواح, ونعيم للقلوب, وشهوة للأبدان; واندفع عنهم كل محذور.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍسورة التوبة الآية رقم 101
يقول تعالى: " وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " أيضا منافقون " مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ " أي: تمرنوا عليه, وأزدادوا فيه طغيانا.
" لَا تَعْلَمُهُمْ " بأعيانهم, فتعاقبهم, أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم, لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة.
" نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ " يحتمل أن التثنية على بابها, وأن عذابهم عذاب في الدنيا, وعذاب في الآخرة.
ففي الدنيا, ما ينالهم من الهم والغم, والكراهة, لما يصيب المؤمنين, من الفتح والنصر.
وفي الآخرة عذاب النار, وبئس القرار.
ويحتمل أن المراد, سنغلظ عليهم العذاب, ونضاعفه عليهم, ونكرره.
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة التوبة الآية رقم 102
يقول تعالى: " وَآخَرُونَ " ممن بالمدينة: ومن حولها, بل ومن سائر البلاد الإسلامية.
" اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ " أي: أقروا بها, وندموا عليها, وسعوا في التوبة منها, والتطهر من أدرانها.
" خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا " , ولا يكون العمل صالحا, إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان, المخرج عن الكفر والشرك, الذي هو شرط لكل عمل صالح.
فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة, بالأعمال السيئة, من التجري على بعض المحرمات, والتقصير في بعض الواجبات, مع الاعتراف بذلك والرجاء, بأن يغفر اللّه لهم.
فهؤلاء " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ " وتوبته على عبده نوعان.
الأول: التوفيق للتوبة والثاني: قبولها بعد وقوعها منهم.
" إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي: وصفه المغفرة والرحمة, اللتان لا يخلو مخلوق منهما.
بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما.
فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم, ما ترك على ظهرها من دابة.
" إن اللّه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا " .
ومن مغفرته: أن المسرفين على أنفسهم, الذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة, إذا تابوا إليه وأنابوا, ولو قبيل موتهم بأقل القليل, فإنه يعفو عنهم, ويتجاوز عن سيئاتهم.
فهذه الآية, دالة على أن المخلط المعترف النادم, الذي لم يتب توبة نصوحا, أنه تحت الخوف والرجاء, وهو إلى السلامة أقرب.
وأما المخلط الذي لم يعترف, ولم يندم على ما مضى منه, بل لا يزال مصرا على الذنوب, فإنه يخاف عليه أشد الخوف.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة التوبة الآية رقم 103
قال تعالى لرسوله, ومن قام مقامه, آمرا له بما يطهر المؤمنين, ويتمم إيمانهم: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً " وهي الزكاة المفروضة.
" تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا " أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة.
" وَتُزَكِّيهِمْ " أي: تنميهم, وتزيد في أخلاقهم الحسنة, وأعمالهم الصالحة, وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي, وتنمي أموالهم.
" وَصَلِّ عَلَيْهِمْ " أي: ادع لهم, أي: للمؤمنين عموما وخصوصا, عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم.
" إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ " أي: طمأنينة لقلوبهم, واستبشار لهم.
" وَاللَّهُ سَمِيعٌ " لدعائك, سمع إجابة وقبول.
" عَلِيمٌ " بأحوال العباد ونياتهم, فيجازي كل عامل بعمله, وعلى قدر نيته.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم, يمتثل لأمر اللّه, ويأمرهم بالصدقة, ويبعث عماله لجبايتها.
فإذا أتاه وأخذ صدقته, دعا له, وبرَّك.
ففي هذه الآية, دلالة على وجوب الزكاة, في جميع الأموال.
وهذا إذا كانت للتجارة, ظاهرة, فإنها أموال تنمى ويكتسب بها.
فمن العدل أن يواسى منها الفقراء, بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة.
وما عدا أموال التجارة, فإن كان المال ينمى, كالحبوب, والثمار, والماشية المتخذة للنماء, والدر, والنسل, فإنها تجب فيها الزكاة, وإلا, لم تجب فيها, لأنها إذا كانت للقنية, لم تكن بمنزلة الأموال التي يتخذها الإنسان في العادة, مالا يتمول, ويطلب منه المقاصد المالية, وإنما صرف عن المالية بالقنية ونحوها.
وفيها أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى, حتى يخرج زكاة ماله, وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها, لأن الزكاة والتطهير, متوقف على إخراجها.
وفيها: استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه, لمن أدى زكاته, بالبركة.
وأن ذلك ينبغي, أن يكون جهرا, بحيث يسمعه المتصدق, فيسكن إليه.
ويؤخذ من المعنى, أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن, بالكلام اللين, والدعاء له, ونحو ذلك, مما يكون فيه طمأنينة, وسكون لقلبه.
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُسورة التوبة الآية رقم 104
أي: أما علموا سعة رحمة اللّه, وعموم كرمه, وأنه " يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ " التائبين, من أي ذنب كان, بل يفرح تعالى بتوبة عبده, إذا تاب, أعظم فرح يقدر.
" وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ " منهم أي يقبلها, ويأخذها بيمينه, فيربيها لأحدهم, كما يربي الرجل فلوه, حتى تكون التمرة الواحدة, كالجبل العظيم فكيف بما هو أكبر, وأكثر من ذلك.
" وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " أي: كثير التوبة على التائبين.
فمن تاب إليه, تاب عليه, ولو تكررت منه المعصية مرارا.
ولا يمل اللّه من التوبة على عباده, حتى يملوا هم, ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه, وموالاتهم عدوهم.
" الرَّحِيمِ " الذي وسعت رحمته كل شيء, وكتبها للذين يتقون, ويؤتون الزكاة, ويؤمنون بآياته, ويتبعون رسوله.
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة التوبة الآية رقم 105
يقول تعالى: " وَقُلْ " لهؤلاء المنافقين: " اعْمَلُوا " ما ترون من الأعمال, واستمروا على باطلكم, فلا تحسبوا أن ذلك, سيخفى.
" فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ " أي: لا بد أن يتبين عملكم ويتضح.
" وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " من خير وشر.
ففي هذا, التهديد والوعيد الشديد, على من استمر على باطله وطغيانه, وغيه وعصيانه.
ويحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خير وشر, فإن اللّه مطلع عليكم, وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين, على أعمالكم, ولو كانت باطنة.
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة التوبة الآية رقم 106
أي: " وَآخَرُونَ " من المخلفين " مُرْجَوْنَ " أي: مؤخرون " لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ " .
ففي هذا, التخويف الشديد للمتخلفين, والحث لهم على التوبة والندم.
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " يضع الأشياء مواضعها, وينزلها منازلها.
فإن اقتضت حكمته, أن يخذلهم ولا يوفقهم للتوبة, فعل ذلك.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَسورة التوبة الآية رقم 107
كان أناس من المنافقين من أهل قباء, اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء, يريدون به المضارة والمشاقة, بين المؤمنين, ويعدونه لمن يرجونه, من المحاربين للّه ورسوله, يكون لهم حصنا عند الاحتياج إليه.
فبين تعال خزيهم, وأظهر سرهم فقال: " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا " أي: مضارة للمؤمنين ولمسجدهم, الذي يجتمعون فيه " وَكُفْرًا " أي: مقصدهم فيه الكفر, إذا قصد غيرهم الإيمان.
" وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ " أي: ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا.
" وَإِرْصَادًا " أي: إعدادا " لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ " أي: إعانة للمحاربين للّه ورسوله, الذين تقدم حرابهم, واشتدت عداوتهم.
وذلك كأبي عامر الراهب, الذي كان من أهل المدينة.
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم, وهاجر إلى المدينة, كفر به, وكان متعبدا في الجاهلية.
فذهب إلى المشركين, يستعين بهم على حرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
فلما لم يدرك مطلوبه عندهم, ذهب إلى قيصر, بزعمه أنه ينصره.
فهلك اللعين في الطريق, وكان على وعد وممالئة, هو والمنافقون.
فكان مما أعدوا له, مسجد الضرار, فنزل الوحي بذلك.
فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم, من يهدمه, ويحرقه, فهدم وحرق, وصار بعد ذلك مزبلة.
قال تعالى - بعد ما بين مقاصدهم الفاسدة في ذلك, المسجد - " وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا " في بنائنا إياه " إِلَّا الْحُسْنَى " أي: الإحسان إلى الضعيف, والعاجز والضرير.
" وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " فشهادة اللّه عليهم, أصدق من حلفهم.
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَسورة التوبة الآية رقم 108
" لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا " أي: لا تصل في ذلك المسجد, الذي بني ضرارا أبدا.
فاللّه يغنيك عنه, ولست بمضطر إليه.
" لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ " ظهر فيه الإسلام في " قباء " وهو مسجد " قباء " أسس على إخلاص الدين للّه, وإقامة ذكره, وشعائر دينه, وكان قديما في هذا, عريقا فيه.
فهذا المسجد الفاضل " أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ " وتتعبد, وتذكر اللّه تعالى, فهو فاضل, وأهله فضلاء, ولهذا مدحهم اللّه بقوله: " فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا " من الذنوب, ويتطهروا من الأوساخ, والنجاسات, والأحداث.
ومن المعلوم أن من أحب شيئا, لا بد أن يسعى له, ويجتهد فيما يحب.
فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ, والأحداث.
ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه.
وكانوا مقيمين للصلاة, محافظين على الجهاد, مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم, وإقامة شرائع الدين, وممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله.
وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم, بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم.
فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء, فحمدهم على صنيعهم.
" وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ " الطهارة المعنوية, كالتنزه من الشرك, والأخلاق الرذيلة.
والطهارة الحسية, كإزالة الأنجاس, ورفع الأحداث.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَسورة التوبة الآية رقم 109
ثم فاضل بين المساجد, بحسب مقاصد إهلها وموافقتها لرضاه فقال: " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ " أي: على نية صالحة, وإخلاص.
" وَرِضْوَانٌ " بأن كان موافقا لأمره, فجمع في عمله, بين الإخلاص والمتابعة.
" خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا " أي: على طرف " جُرُفٍ هَارٍ " أي: بال, قد تداعى للانهدام.
" فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " لما فيه مصالح دينهم ودنياهم.
لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة التوبة الآية رقم 110
" لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ " أي: شكا, وريبا ماكثا في قلوبهم.
" إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ " بأن يندموا غاية الندم, ويتوبوا إلى ربهم, ويخافوه غاية الخوف, فبذلك يعفو اللّه عنهم.
وإلا فبنيانهم, لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم, ونفاقا إلى نفاقهم.
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ " بجميع الأشياء, ظاهرها, وباطنها, خفيها, وجليها, وبما أسره العباد, وأعلنوه.
" حَكِيمٌ " لا يفعل, ولا يخلق, ولا يأمر, ولا ينهى, إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به.
فللّه الحمد.
وفي هذه الآيات, عدة فوائد.
منها: أن اتخاذ المسجد, الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه, أنه محرم, وأنه يجب هدم مسجد الضرار, الذي اطلع على مقصود أصحابه.
ومنها: أن العمل, وإن كان فاضلا, تغيره النية, فينقلب منهيا عنه, كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم, إلى ما ترى.
ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين, فإنها من المعاصي, التي يتعين تركها وإزالتها.
كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم, يتعين اتباعها, والأمر بها, والحث عليها.
لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار, بهذا المقصد الموجب للنهي عنه, كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله.
ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية, والبعد عنها, وعن قربها.
ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع, كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار, ونهي عن القيام فيه.
وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء " حتى قال اللّه فيه: " لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ " .
ولهذا كان لمسجد قباء, من الفضل, ما ليس لغيره, حتى كان صلى الله عليه وسلم, يزور قباء كل سبت, يصلي فيه, وحث على الصلاة فيه.
ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية, أربع قواعد مهمة, وهي: كل عمل فيه مضارة لمسلم, أو فيه معصية للّه, فإن المعاصي من فروع الكفر, أو فيه تفريق بين المؤمنين, أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله, فإنه محرم ممنوع منه, وعكسه بعكسه.
ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء, مسجدا أسس على التقوى, فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم, الذي أسسه بيده المباركة, وعمل فيه, واختاره اللّه له, من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة, هو العمل المؤسس على التقوى, الموصل لعامله إلى جنات النعيم.
والعمل المبني على سوء القصد, وعلى البدع والضلال, هو العمل المؤسس على شفا جرف هار, فانهار به في نار جهنم, واللّه لا يهدي القوم الظالمين.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُسورة التوبة الآية رقم 111
يخبر تعالى خبرا صدقا, ويعد وعدا حقا, بمبايعة عظيمة, ومعاوضة جسيمة.
وهو: أنه " اشْتَرَى " بنفسه الكريمة " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ " فهي المثمن والسلعة المبيعة.
" بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ " التي فيها, ما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين, من أنواع اللذات والأفراح, والمسرات, والحور, الحسان, والمنازل الأنيقات.
وصفة العقد والمبايعة, بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم, في جهاد أعدائه, لإعلاء كلمته, وإظهار دينه " يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ " .
فهذا العقد والمبايعة, قد صدرت من اللّه, مؤكدة بأنواع التأكيدات.
" وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ " التي هي أشرف الكتب, التي طرقت العالم, وأعلاها, وأكملها, وجاء بها أكمل الرسل, أولو العزم, وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق.
" وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا " أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه.
" بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ " أي: لتعزموا بذلك, وليبشر بعضكم بعضا, ويحث بعضكم بعضا.
" وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " الذي لا فوز أكبر منه, ولا أجل, لأنه يتضمن السعادة الأبدية, والنعيم المقيم, والرضا من اللّه, الذي هو أكبر من نعيم الجنات.
وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة, فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلاله.
وإلى العوض, وهو أكبر الأعواض وأجلها, جنات النعيم.
وإلى الثمن المبذول فيها, وهو: النفس, والمال, الذي هو أحب الأشياء للإنسان.
وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع, وهو أشرف الرسل.
وبأي الكتب رقم, في كتب اللّه الكبار المنزلة, على أفضل الخلق.
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَسورة التوبة الآية رقم 112
كأنه قيل: من هم المؤمنون, الذين لهم البشارة من اللّه, بدخول الجنات, ونيل الكرامات؟ فقال: هم " التَّائِبُونَ " أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات, عن جميع السيئات.
" الْعَابِدُونَ " أي: المتصفون بالعبودية للّه, والاستمرار على طاعته, من أداء الواجبات والمستحبات, في كل وقت, فبذلك يكون العبد من العابدين.
" الْحَامِدُونَ " للّه في السراء والضراء, واليسر والعسر, المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة, المثنون على اللّه بذكرها وبذكره, في آناء الليل, وآناء النهار.
" السَّائِحُونَ " فسرت السياحة, بالصيام, أو السياحة في طلب العلم.
وفسرت بسياحة القلب, في معرفة اللّه ومحبته, والإنابة إليه على الدوام.
والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات, كالحج, والعمرة, والجهاد, وطلب العلم, وصلة الأقارب, ونحو ذلك.
" الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ " أي: المكثرون من الصلاة, المشتملة على الركوع والسجود.
" الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ " ويدخل فيه, جميع الواجبات والمستحبات.
" وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ " وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه.
" وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ " بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله, وما يدخل في الأوامر, والنواهي, والأحكام, وما لا يدخل, الملازمون لها فعلا وتركا.
" وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " لم يذكر ما يبشر لهم به, ليعم جميع ما رتب على الإيمان, من ثواب الدنيا, والدين والآخرة.
فالبشارة متناولة لكل مؤمن.
وأما مقدارها وصفتها, فإنها, بحسب حال المؤمنين, وإيمانهم, قوة, وضعفا, وعملا بمقتضاه.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِسورة التوبة الآية رقم 113
يعني: ما يليق ولا يحسن بالنبي والمؤمنين به " أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " .
أي: لمن كفر به, وعبد معه غيره " وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ " .
فإن الاستغفار لهم في هذه الحال, غلط غير مفيد, فلا يليق بالنبي والمؤمنين.
لأنهم إذا ماتوا على الشرك, أو علم أنهم يموتون عليه, فقد حقت عليهم كلمة العذاب, ووجب عليهم الخلود في النار, ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين, ولا استغفار المستغفرين.
وأيضا فإن النبي, والذين آمنوا معه, عليهم أن يوافقوا ربهم, في رضاه, وغضبه, ويوالوا من والاه اللّه, ويعادوا من عاداه اللّه.
والاستغفار منهم, لمن تبين أنه من أصحاب النار, مناف لذلك, مناقض له.
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌسورة التوبة الآية رقم 114
ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن, إبراهيم عليه السلام, لأبيه فإنه " عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ " في قوله " سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا " وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه.
فلما تبين لإبراهيم, أن أباه عدو للّه, سيموت على الكفر, ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير " تَبَرَّأَ مِنْهُ " موافقة لربه وتأدبا معه.
" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ " أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور, كثير الذكر, والدعاء, والاستغفار, والإنابة إلى ربه.
" حَلِيمٌ " أي: ذو رحمة بالخلق, وصفح عما يصدر منهم إليه, من الزلات, لا يستفزه جهل الجاهلين, ولا يقابل الجاني عليه بجرمه.
فأبوه قال له: " لَأَرْجُمَنَّكَ " وهو يقول له " سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي " .
فعليكم أن تقتدوا به, وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء " إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ " كما نبهكم اللّه عليها, وعلى غيرهما.
ولهذا قال: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا " إلى " وَلَا نَصِيرٍ " .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة التوبة الآية رقم 115
يعني أن اللّه تعالى, إذا منَّ على قوم بالهداية, وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم, فإنه تعالى, يتمم عليهم إحسانه, ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه, وتدعو إليه ضرورتهم, فلا يتركهم ضالين, جاهلين بأمور دينهم.
ففي هذا, دليل على كمال رحمته, وأن شريعته وافية, بجميع ما يحتاجه العباد, في أصول الدين وفروعه.
ويحتمل أن المراد بذلك " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ " فإذا بين لهم ما يتقون, فلم ينقادوا له, عاقبهم بالإضلال.
جزاء لهم, على ردهم الحق المبين.
والأول, أولى.
" إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " فلكمال علمه وعمومه, علمكم ما لم تكونوا تعلمون, وبين لكم ما به تنتفعون.
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍسورة التوبة الآية رقم 116
" إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ " أي: هو المالك لذلك, المدبر لعباده, بالإحياء والإماتة, وأنواع التدابير الإلهية.
فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري, فكيف يخل بتدبيره الديني, المتعلق بإلهيته, ويترك عباده سدى مهملين, أو يدعهم ضالين جاهلين, وهو أعظم توليه لعباده؟!!.
فلهذا قال: " وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ " أي: ولي يتولاكم, بجلب المنافع لكم, أو " نَصِيرٍ " يدفع عنكم المضار.
لَقَد تَّابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌسورة التوبة الآية رقم 117
يخبر تعالى, أنه من لطفه وإحسانه " تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ " صلى الله عليه وسلم, " وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " فغفر لهم الزلات, ووفر لهم الحسنات, ورقاهم إلى أعلى الدرجات, وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات, ولهذا قال: " الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ " أي: خرجوا معه لقتال الأعداء, في غزوة " تبوك " وكانت في حر شديد, وضيق من الزاد والركوب, وكثرة عدد مما يدعو إلى التخلف.
فاستعانوا اللّه تعالى, وقاموا بذلك " مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ " أي: تنقلب قلوبهم, ويميلوا إلى الدعة والسكون, ولكن اللّه ثبتهم, وأيدهم وقواهم.
وزَيْغُ القلب, هو: انحرافه عن الصراط المستقيم.
فإن كان الانحراف في أصل الدين, كان كفرا.
وإن كان في شرائعه, كان بحسب تلك الشريعة, التي زاغ عنها.
إما قصر عن فعلها, أو فعلها على غير الوجه الشرعي.
وقوله " ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ " أي: قبل توبتهم " إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " .
" وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
ومن رأفته ورحمته, أن مَنَّ عليهم بالتوبة, وقبلها منهم, وثبتهم عليها.
وكذلك لقد تاب " وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا " عن الخروج مع المسلمين, في تلك الغزوة, وهم " كعب بن مالك " وصاحباه, وقصتهم مشهورة معروفة, في الصحاح والسنن.
" حَتَّى إِذَا " حزنوا حزنا عظيما, و " ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ " أي: على سعتها ورحبها " وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ " التي هي أحب إليهم من كل شيء.
فضاق عليهم الفضاء الواسع, والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منهم.
وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج, بلغ من الشدة والمشقة, ما لا يمكن التعبير عنه.
وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء.
" وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ " أي: تيقنوا, وعرفوا بحالهم, أنه لا ينجي من الشدائد, ويلجأ إليه, إلا اللّه وحده لا شريك له.
فانقطع تعلقهم بالمخلوقين, وتعلقوا باللّه ربهم, وفروا منه إليه.
فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة.
" ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ " أي أذن في توبتهم, ووفقهم لها " لِيَتُوبُوا " لتقع منهم, فيتوب اللّه عليهم.
" إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ " أي: كثير التوبة والعفو, والغفران عن الزلات والنقصان.
" الرَّحِيمِ " وصفه الرحمة العظيمة, التي لا تزال تنزل على العباد, في كل وقت وحين, في جميع اللحظات, ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية.
وفي هذه الآيات, دليل على أن توبة اللّه على العبد, أجل الغايات, وأعلى النهايات, فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده, وامتن عليهم بها, حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها: ومنها: لطف الله بهم, وتثبيتهم في إيمانهم, عند الشدائد, والنوازل المزعجة.
ومنها: أن العبادة الشاقة على النفس, لها فضل ومزية, ليست لغيرها.
وكلما عظمت المشقة, عظم الأجر.
ومنها: أن توبة اللّه على عبده, بحسب ندمه وأسفه الشديد.
وأن من لا يبالي بالذنب, ولا يحرج إذا فعله, فإن توبته مدخولة, وإن زعم أنها مقبولة.
ومنها: أن علامة الخير وزوال الشدة, إذا تعلق القلب بالله تعالى, تعلقا تاما, وانقطع عن المخلوقين.
ومنها: أن من لطف اللّه بالثلاثة, أن وسمهم بوسم, ليس بعار عليهم فقال: " خُلِّفُوا " إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم, أو خلفوا عن من بث في قبول عذرهم, أو في رده, وأنهم لم يكن تخلفهم, رغبة عن الخير, ولهذا لم يقل " تخلفوا " .
ومنها: أن اللّه تعالى, من عليهم بالصدق, ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " الآية.
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُسورة التوبة الآية رقم 118
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَسورة التوبة الآية رقم 119
أي: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " باللّه, وبما أمر اللّه بالإيمان به, قوموا بما يقتضيه الإيمان, وهو القيام بتقوى اللّه, باجتناب ما نهى اللّه عنه, والبعد عنه.
" وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " في أقوالهم, وأفعالهم, وأحوالهم, الذين أقوالهم صدق.
وأعمالهم, وأحوالهم, لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل والفتور, سالمة من المقاصد السيئة, مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة, فإن الصدق, يهدي إلى البر, وإن البر, يهدي إلى الجنة.
قال تعالى: " هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ " الآية.
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَسورة التوبة الآية رقم 120
يقول تعالى - حاثا لأهل المدينة المنورة, من المهاجرين, والأنصار, ومن حولها من الأعراب, الذين أسلموا, فحسن إسلامهم: " مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ " .
أي: ما ينبغي لهم ذلك, ولا يليق بأحوالهم.
" وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ " في بقائها وراحتها, وسكونها " عَنْ نَفْسِهِ " الكريمة الزكية.
بل النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فعلى كل مسلم, أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم, بنفسه, ويقدمه عليها.
فعلامة تعظيم الرسول, ومحبته, والإيمان التام به, أن لا يتخلفوا عنه.
ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ " أي: المجاهدين في سبيل اللّه " لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ " أي: تعب ومشقة " وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " أي: مجاعة.
" وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ " من الخوض لديارهم, والاستيلاء على أوطانهم.
" وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا " كالظفر بجيش, أو سرية, أو الغنيمة لمال.
" إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ " لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم.
" إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله, وقيامهم بما عليهم من حقه, وحق خلقه.
فهذه الأعمال, آثار من آثار عملهم.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5